رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

«الخضر» ومحنة الإسلام


سأل سائلٌ عن خلود العبد الصالح "الخضر" عليه السلام، الذي عاصر النبي موسى عليه السلام، حتى يومنا هذا. تخيلتُ أن الشيخ المسئول سوف يتعففُ عن الإجابة، أو ينصحُ السائل بألا يشغل نفسه بعلم لا ينفع وجهلٍ لا يضرُّ، إن لم يقطعْ بشكل نهائي بوفاة العبد الصالح، حيثُ لا خلودَ لبشرٍ، فكلُّ مَنْ عليها فانٍ، ويبقى وجهُ ربك ذو الجلال والإكرام. ولكن يبدو أنني كنتُ ساذجًا.


لماذا؟
لأن الشيخ الجليل، أخذ الأمر على محمل الجدِّ، وانتفض مُجيبًا السائل الغريب في مسألته العجيبة، صاحبُ الفضيلة لم يستبعدْ بقاء "الخضر" حيًا حتى الساعة، وكأن الله، الذي لم يكتبْ لنبيِّه محمد، صلى الله عليه وسلم، الخلد، ولا لأىٍّ من أنبيائه، كما جاء في القرآن الكريم: "وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ، أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ"، كتبه وقدَّره لعبده الصالح، وهو ما يعني بلغة الأرقام أنه يعيش منذ نحو 3600 عام على الأقل، ما يوازى 36 قرنًا من الزمان!!

مولانا – لا فُضَّ فوه- استند في استرساله الدقيق إلى كتب المُتقدمين، ومعظمهم من الثقات- الذين لم ينكروا خلود "الخضر" إلى يوم القيامة، مُتجاهلين نصوصًا قرآنية صريحة لا تقبل الشك، تنفي صفة الخلود عن البشر، بمن فيهم الأنبياء أولو العزم، وذكر الشيخ المُفوَّه حزمة من المراجع الدينية والتاريخية التي تُجمع على أن العبد الصالح الوارد ذكرُه في سورة "الكهف"، لا يزالُ حيًّا يُرزقُ، ولا وجه للطعن في ذلك!

الأمر لا يحتمل هزلًا، بل هو جدُّ خطير، لأنه يعطي مؤشرًا سلبيًا عن عقلية المشتغلين بالدعوة الإسلامية، ويعكس صورة سلبية عن المسلمين بشكل عام، ويؤكد في الوقت ذاته أن الإصرار على ما يسمى "تجديد الخطاب الدينى" مُجرد وهمٍ وإهدار للوقت ومضيعة للجهد ودوران في الفراغ.

هذا السؤال وتلك الإجابة يكشفان – بجلاءٍ- عوار كتب الثراث الإسلامي، وسذاجة من يتصدرون للفتوى والحديث باسم الإسلام والدفاع عن لوائه ورايته، ويؤكدان المحنة التي يعيشها وسوف يعيشها الخطاب الديني في قادم العقود والقرون، إن يقين قطاعات كبيرة من المسلمين، ومن بينهم الصوفية، بخلود "الخضر" عليه السلام، وبقائه خلال 36 قرنًا على قيد الحياة، وتأليف الكتب والمصادر التي تدافع عن هذه الفرضية، أمرٌ مُخجلٌ للغاية، ويطرح كثيرًا من التساؤلات وعلامات الاستفهام والتعجب معًا!!

هذه الفرضية الغريبة، فضلًا عن اصطدامها مع الكثير من القناعات والثوابت الدينية والقرآنية، فإنها أيضًا تُشخِّص لحالة تغييب العقل الإسلامى وسقوطه في بحر من الأوهام لا شاطئ له، كما تؤكد في الوقت ذاته الحالة المرضية المزمنة، التي وقع الخطاب الديني أسيرًا لأغلالها وقيودها مبكرًا جدًا، وصار من المستحيل الفكاك والتعافى منها.

الأزمة – بالنسبة لي- ليست في خلود العبد الصالح "الخضر" من عدمه، ولا المكان الذين يعيش فيه دون أن نراه، ولكنها تؤكد "محنة مؤلمة" تضرب الفكر الإسلامي في العمق، وتمنح الخصم، سواء كان داخليًا ممن يتكسبون من سبِّ الإسلام، أو خارجيًا ممن يروق لهم إهالة التراب على الدين الخاتم، الفرصة السانحة، ليوسعوا من حربهم الشعواء وليكتسبوا مؤيدين جددًا تؤازرهم في ضلالهم البعيد.

إنَّ اللهَ لا يغير ما بقوم حتى يُغيروا ما بأنفسهم، ومن ثمًّ.. فلن ينصلحَ حالُ الأمة الموصوفة بأنها "خير أمة أخرجتْ للناس"، إلا إذا توغلتْ داخل نفوسهم حالة من النقد الذاتي للخرافات والأوهام التي تكتنف الإسلامَ، ويتخلصوا منها بإرادتهم ولا ينخرطوا في الدفاع عن باطلٍ.

فمن يؤمن بأن "الخضر" لا يزال خالدًا، فسوف يستسيغُ عقله الإيمانَ بما هو أوهنُ من ذلك، النقدُ الذاتي للإسلام هو بداية النجاة والخلاص وأولى خطوات إعادة الدين الخاتم إلى سيرته الأولى، حيث لا أوهام ولا خرافات ولا تخاريف ولا أباطيل ولا أكاذيب.
Advertisements
الجريدة الرسمية