رئيس التحرير
عصام كامل

جودة عبد الخالق وزير التضامن الأسبق: الدولة همشت الأحزاب لصالح الوطني والإخوان في عهد مبارك

فيتو


  • هذه طبيعة علاقتي بأسامة الباز وعلي الدين هلال وسعد الدين إبراهيم 
  • اختيار حازم الببلاوي للوزارة بداية عودة رجال مبارك
  • عصام شرف رفض اقتراحا بالاجتماع مع المجلس العسكري لرفض الإعلان الدستوري
  • أكل المعهد الاشتراكي أبعدني عن دورات التثقيف
  • نظام عبدالناصر أخطأ بحل الأحزاب وكان يمكن إصلاحها 
  • الدراسات الأجنبية والمحلية أثبتت أن مصر كانت بلا اقتصاد قبل ثورة يوليو 
  • كامب ديفيد مزقت الوحدة العربية بعد انتصار أكتوبر ٧٣ 
  • راض عن أدائي كوزير.. وضعف الأدوات أكبر مشكلة واجهتني 
  • حزب التجمع مثل الليمونة في بلد قرفانة
  • أغلبية اليهود لا يؤيدون إسرائيل ومنهم من يرفضها وقلة فقط تقف معها
  • اشتراكية عهد عبدالناصر كانت رأسمالية الدولة.. ومنذ مبارك حتى الآن رأسمالية المحاسيب

أجرى الحوار : محمد نوار
تصوير هدير صالح

حين تجلس مع المفكر الاقتصادي الكبير ووزير التضامن الأسبق الدكتور جودة عبد الخالق، تشعر أنك إزاء شخصية من طراز خاص، قدمت أفكارا عديدة من أجل الإنسان، التقيته في مسكنه البسيط الذي يقع في عمارة تضم مائة وعشرين شقة، بأحد أحياء القاهرة، تحدثت معه عن رحلته مذ كان طالبا في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وحتى مرحلة ما بعد شغله منصب الوزير، مرورا بحياة عاشها في زمن الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، والتنظيم الطليعي الذي انخرط فيه، ثم عهد السادات وسنوات مبارك، وما تبعها من ثورتي 25 يناير و30 يونيو.
كان د. جودة عبدالخالق صريحا كعادته، يتحدث بوضوح، وبتحليل الخبير، ويروى ذكريات سنوات الشباب مع شخصيات يشار لها بالبنان، مثل الراحل الدكتور أسامة الباز، والدكتور على الدين هلال، والدكتور سعد الدين إبراهيم، ويكشف عن مواقف حاسمة في حياته.

المحطة الأولى مع د.جودة كانت عن قرار اختيار الكلية، فقال بشغف جارف: "اخترت كلية الاقتصاد والعلوم السياسية لحبى في السياسة، رغم أن علاقتى بها لم تكن سوى معارضة السلطة المتمثلة في شيخ الكتاب ثم مدرس التاريخ، ولم يكن لدى الوعى في تلك المرحلة بحكم السن والنشأة، فلم يكن يوجد لدى جريدة أو كتاب أو راديو، لعدم معرفة الأب والأم بالقراءة والكتابة".
يصمت دقائق ثم يواصل: "رأيت عبدالناصر مرتين، مرة في عيد العلم عام 1960، لأنى كنت الثانى على الجمهورية في الثانوية، ولهذا اللقاء قصة، فقد استلفت بدلة من أحد الأقارب، حيث لم أكن أملك قدرة مالية لشراء بدلة، ولأنه لا يمكن مصافحة عبدالناصر بقميص وبنطلون، كانت البدلة ضيقة جدا، وعندما صافحته قال لى: "شد حيلك أملنا فيكم كبير..!"، والتقيته مرة أخرى في عام 1964 وكانت بمناسبة التفوق، وكنت الأول على الثلاث شعب في الكلية".
ومضى د.جودة يقول :"مارست السياسة في الكلية من خلال لجنة العشرين، ثم فوجئت بأنهم اختارونى في التنظيم الطليعى الذي كان يضم د. مصطفى الفقى، د.على الدين هلال وغيرهما، وأريد أن أشير إلى أن لجنة العشرين كانت فيها درجة من الحوار وحرية التعبير ومناقشة لم يكن فيها إطلاقا الرأى الواحد، وبدون أن أغتاب أحدا لم يكونوا مخلصين لفكرة الاشتراكية".
وتابع :"كان لدى هوى للاشتراكية، ولم يكن حبي لها رفاهية أو موضة، فأنا ابن الطبقة المتوسطة وأقل، كنت أعزل تماما، منذ الطفولة، كنت أفكر في أحوال الناس، وأعود وأحكى لأمى عن التفاوت بين الناس، كما أننى تأثرت بسلامة موسى وفكره، كنت أبحث عن العدالة الاجتماعية، لم انضم للتنظيمات الكثيرة التي كنت اعتبرها نخبوية، كما أن ارتباطها بالاتحاد السوفيتى لم يقنعنى، كان لدى تجربة أثناء الجامعة في المعهد الاشتراكى، وكان فيه د.إبراهيم صقر، ود.إبراهيم سعد الدين، حيث أتيح لى التجول في الريف، ولكن شدنى وأذهلنى كمية الطعام التي كانت تلقى في القمامة بعد كل اجتماع، وهذا يتناقض مع الاشتراكية، وأكثر العناصر كانت غير مخلصة للفكرة إلا من رحم ربى واعتقد أن النسبة لا تزيد على 10%".
وعن علاقته بمنظمة الشباب وموقفه مع على صبري رئيس الوزراء في عهد عبد الناصر، قال د.جودة: كنت أرى أن منظمة الشباب ليست قوية، ولكن تساءلت لماذا لا أحاول التعرف على التجربة من الداخل، وفى عام 1966 كان هناك فوج من الأساتذة والمعيدين في دورة سيحضرها على صبرى رئيس الوزراء آنذاك، ويجرى حوارا مع الحاضرين، أبلغونا أن كل من يريد سؤالا يكتبه، ولكن من مبدأ إنكار الذات كل متدرب سيلقى سؤال الآخر، فوجئت بأنهم أعطونى سؤالا خائبا ولم يسأل أحد سؤالى، وعندما وصل الدور عندى سألت سؤالى الذي تجاهلوه، وفي الليل جاء من يخبرنى بأنه سيتم التحقيق معى لخروجى عن النظام. فقلت: ليس لى تطلعات معكم، كنت أعرف أن المنظمة "مخوخة "واليوم تأكد لى هذا".
محطة ثانية كانت مهمة في حياة د.جودة عبدالخالق وهى سفره للدراسة في كندا، وعن أسرار هذه الرحلة قال: " كانت المنحة الكندية مدتها عام فقط، وحتى أستمر أنا وزوجتى علينا البحث عن عمل حتى نسجل للدراسة في العام الجديد، مع العلم أنه عرض علينا تقديم طلب هجرة ولكن رفضنا هذا، لأن الهدف هو الدراسة والعودة إلى الوطن، ولأننا طلبة فإن سوق العمل كان مغلقا أمامنا، لهذا توجهنا لأعمال مثل بيع المقشات الطويلة، فقد كانت زوجتى كريمة كريم تحملها وتمر على البيوت، وأنا اشتغلت ميكانيكى، جناينى، نجار، بائع صحف، وكانت تجربة رأيت فيها الكثير، ومن أغرب المواقف التي قد يتفاجأ الكثيرون بها، بعد أن تعاملت مع اليهود اكتشفت أن الأغلبية العظمى من اليهود لا يعبأون بإسرائيل، ومنهم من ينتقد إسرائيل ويرفض وجودها تماما، وقلة صغيرة جدا منهم تؤيد إسرائيل".
وأردف: "كنت رئيس اتحاد طلاب الولايات المتحدة وكندا، وأصدرنا مجلة "الاشتراكى" وكان من كتابها د.على الدين هلال ود.نجيب الهلالى، وكانت المجلة تحمل حوارا خصبا وحيويا، وكنا نناقش الأوضاع المتردية في مصر، رافضين شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" و"عام الحسم" رؤيتنا البيت من الداخل أولا حتى نواجه العدو".
ويمضى قطار الذكريات بالمفكر الاقتصادي والوزير الأسبق ليصل إلى رفاق الغربة وعنهم قال:" كان د.أسامة الباز ود.نجيب الهلالى، د.سعد الدين إبراهيم، ود.على الدين هلال، وغيرهم يدرسون في ذلك الوقت، والباز كان أسبق في السفر، شكلنا جماعة الشباب الاشتراكى، كنا معارضي،ن ولهذا تعرضنا للمضايقات، لأننا نتبع الإشراف الحكومى من قبل المستشار الثقافى المصرى في الولايات المتحدة، كان د. أحمد كمال أبوالمجد في فترة من الفترات، وكان ملك التوازنات، وهناك من أطلقنا عليه "العجلاتى" لعدم تعاونه معنا ولجهله دورنا،أما أفضل من تعاون معنا فهو د.أحمد القشيرى الذي كان أكثر احتراما".
ومن الذكريات إلى تقييم مرحلة ما قبل وما بعد ثورة يوليو 1952، يقول د. جودة :"من يدعى أن الأحوال قبل ثورة يوليو 52 كانت أفضل فإن نظرته سطحية وجزئية وضد الواقع الحقيقى، النصف الأول من القرن العشرين وحتى يوليو 52 لم يحدث أي نمو اقتصادى مطلقا في مصر، طبقا لكل الدراسات المحلية أو التي قام بها أجانب، بنت هانسن وهو اقتصادى سويدى كبير أثبت أنه لم يحدث أي نمو في النصف قرن السابق للثورة في جميع القطاعات، ومن يقول إن مصر كانت في رخاء فإنه ينظر فقط للذين يعيشون في قمة الهرم، ويتجاهل الذين يقبعون في قاعه وهو الشعب كله، وليس أدل على هذا من وجود شعار "محاربة الحفاء" قبل ثورة يوليو!!".
واستطرد :"بعد ثورة يوليو شهدت مصر تنويعا أكثر لمصادر الدخل، تم إطلاق برنامج السنوات الخمس للتصنيع (55-1960) وهذا البرنامج كان فيه زخم كبير، وينفذ شعار كل يوم مصنع، وكان يقوده د.عزيز صدقى، ثم حدثت الخطة الخمسية من (60-1965)، وكان هناك خطة خمسية ثانية ولكن لم تتم، ومنذ هذا التاريخ أصبحت الخطة سنوية فقط".
وأضاف: "الخطة الخمسية الأولى حدث جدل كبير حولها، كان شعارها "مضاعفة الدخل القومى" ومن هنا كان هناك رؤية يقودها د.إبراهيم حلمى عبدالرحمن تقول إن الأفضل مضاعفة الدخل في عشر سنوات، لأن مضاعفته في خمس سنوات سترهق الاقتصاد وتخلق مشكلات، والرأى الآخر الذي تم وتغلب بأنه تم اختيار الخمس سنوات، وهذا مثلما حدث الآن في مشروع الفرع الجديد لقناة السويس، الذي كان يجب أن يتم على مدى ثلاث سنوات أفضل من عام، لأن ما حدث تسبب في مشكلات عديدة، ولابد أن نذكر أن الخطة الخمسية حققت أعلى نمو في تاريخ الاقتصاد المصرى، حيث تم إنشاء صناعات كثيرة في هذه الفترة، وظهر الألومنيوم في هذه المرحلة وأحدث السد العالى طفرة كبيرة".
غير أن د.جودة عاد فاستدرك قائلا: " بسبب الحكم السياسي التسلطى، وإلغاء الأحزاب الذي كان من أكبر الأخطاء في تقديرى، لأن إصلاحها لم يكن مستحيلا، والاعتماد على التنظيم الحكومى، لم نستفد من الطفرة التي حدثت بعد بناء السد العالى، حتى الإصلاح الزراعى الذي بدأ في سبتمبر 1952 وما بعدها وكان شيئا جيدا جدا، كان وجه الخطأ فيه أنه جعل العلاقة مؤبدة، لهذا جاءت جماعات الضغط في عام 1992 أيام مبارك، وضغطت في الاتجاه العكسى ضد مصلحة الفلاح".
فاصل آخر من حياة المفكر الاقتصادي تحدث عنه بمرارة قائلا: "قمت بدراسة مضبطة مجلس الشعب بشأن قانون 43 لسنة 74 الخاص بالانفتاح، ووجدت أن الذين طالبوا بالانفتاح خرجوا من رحم القطاع العام، بل هم قيادات سابقة فيه، لأن نمط الإدارة وضعف الرقابة أسفر عن فساد كبير، وكان هؤلاء الذين نهبوا وأصبح لديهم ثروات سفاحا من القطاع العام يريدون مبررا لظهورها، وهو ما عبر عنه فيلم "ياعزيزى كلنا لصوص"، وهذا كله حدث في ظل نظام سياسي لا يترك فرصة للتصحيح أو الرأى الآخر، لدرجة أننى وقتها كنت سأدخل السجن لمجرد كلمة قلتها في جمعية لدفن الموتى، عندما قلت إن هذه الجمعية يجب أن يمتد نشاطها للأحياء...!".
ومن الانفتاح إلى مرحلة كامب ديفيد تحدث د.جودة عن زمن السادات قائلا :"كامب ديفيد مزقت الوحدة العربية التي تجلت في حرب أكتوبر 73، وحتى الآن لم نستطع إصلاح هذا..!"، مردفا:" برغم أن الانفتاح لم يكن يقصد به بيع القطاع العام، إلا أن ما يحدث في مصر منذ عام 74 حتى الآن هو حلقات متواصلة، وما يحدث الآن هو إعادة إنتاج ما كان يحدث أيام مبارك، باختلاف أن الثورة المضادة صمتت عاما ونصف العام، ومع مجىء د.حازم الببلاوى تم تدشين عودة رجال مبارك.!".
ومضى يقول :" في فترة عبدالناصر كان النظام الاقتصادى هو رأسمالية الدولة وليس اشتراكية، أما في عهد مبارك وحتى الآن فكانت رأسمالية المحاسيب "، وأردف :"حدث تجريف للحياة السياسية في ثلاثين سنة مع مبارك، وهذا تسبب في تفكك الأحزاب، وتم الإفساح للحزب الوطنى والإخوان فقط".
وعن علاقته بحزب التجمع قال د.جودة :"رفضت الترشح لرئاسة حزب التجمع أمام د.رفعت السعيد، كما أنه معروض على الآن الترشح للانتخابات القادمة، ولكن ساعتذر لأسباب صحية، لأننى أرفض أن أكون رئيسا للحزب في مقر الحزب في كريم الدولة، وعلى رئيس أي حزب أن يكون بين الناس في القرى والنجوع، حزب التجمع مثل الليمونة في بلد قرفانة للأسف أما الحزب فقد غلب عليه الشللية، والنرجسية مستحكمة بدرجة كبيرة، وهذا على مستوى القيادات، لم تعد كما كانت، ظاهرها شىء وباطنها شىء آخر، وكل عضو يرى في نفسه أنه قائد وزعيم، هذا أدى إلى انشطار الحزب وبدأ بخروج الناصريين ثم مجموعة حزب التحالف الشعبى، الحزب يتقلص، بسبب قلة نشاطه لأن الكيان الذي لا يتحرك يضمر، الغريب أن هناك البعض لا يزال يعيش عالم التنظيمات السرية، الغريب عندما اختيرت للوزارة زعل البعض، وقالوا لابد من أخذ رأى الحزب، قلت لهم لو أن الوزارة ائتلافية معكم حق، ولكن هذه وزارة بمقتضى الحال".
وتحدث عن فترة وجوده في الوزارة قائلا:" عملت مع د.أحمد شفيق ود.عصام شرف ود الجنزورى، وأعتقد أن فترة الجنزورى كانت مفيدة،أما فترة عصام شرف الذي جاء به الإخوان فكان الأمر صعبا حتى حدث موقف لا أنساه، عندما صدر الإعلان الدستورى الذي حدد خطة الطريق أولا انتخابات رئاسية، ثانيا البرلمان، ثالثا الدستور، رفض مجلس الوزراء هذا الترتيب وطلبنا من د.عصام شرف اجتماعا مع المجلس العسكري أو على الأقل المشير طنطاوى، ولكنه رفض، فأخبرته أننى سأطلب لقاء المشير وسأبلغه برأينا، وفعلا حدث وأبلغت المشير برأينا، واخبرته بأن الإعلان الدستورى وضع العربة أمام الحصان، وقلت إن الإخوان سيحكمون وسندخل في حارة سد، ولا ينافس الإخوان إلا بقايا الحزب الوطنى، وقدمت استقالتى، فرفض الاستقالة، في وجود سامى عنان، وقال: لم يعد هناك وقت للتراجع".
سألناه في نهايات الحوار عن مدى رضاه عن نفسه كوزير فقال بهدوء: "راض كل الرضا عن تجربتي كوزير، ولو عادت الأيام سأقبل الوزارة، ولكن ربما لا أفعل كل ما سبق، أكبر مشكلة واجهتني ضعف الأدوات التي تعمل بها، وضغط الشارع عليك، للعلم رفضت الوزارة مرتين، الأولى مع الببلاوى والثانية مع الإخوان".
وأخيرا، سألناه عن مشكلة مصانع الأسمنت، فأكد الوزير الأسبق بحسم أن "حلها ليس ببيع الشركة، ولكن بإعدام كل المسئولين عنها منذ سنوات، وكيف كانت تسير والخسائر تسيطر على الشركة، وتصل المرتبات إلى 14 ألف جنيه، لابد من الحساب وإعدام المسئولين سواء وزراء أو أكبر أو أصغر".
الجريدة الرسمية