رئيس التحرير
عصام كامل

شعبُ الحكومةِ.. وحكومةُ الشعبِ


لا تنقطعُ الإعلاناتُ التليفزيونيةُ والإذاعيةُ والمقروءةُ و"الخُطبُ المُسيَّسةُ" عنْ التحذير منْ العبَثِ بمرافق الحكومةِ أو سرقةِ التيار الكهربىِّ أو الإسرافِ في المياه، إلى آخر هذهِ النوعيةِ من التحذيراتِ المُهمَّة التي لا يختلفُ عليها عاقلانِ أو مُنصفانِ.. فلا أحدَ يُقرُّ سرقة أو اختلاسًا أو استيلاءً أو نهبًا أو تهرُّبًا.


يجبُ أن تضطلعَ الحكومةُ بدورِها، وينبغى على الشعبِ أنْ يؤازرَها في ذلك.. الحكومةُ يجبُ أنْ تكونَ أمينةً معَ شعبِها، والشعبُ يجبُ أنْ يكونَ أمينًا مع حكومتِه.. أمَّا أنْ يُقصِّرَ طرفٌ في مسئوليتهِ فهذهِ كارثة، وإذا قصَّرَ الطرفانِ، وتماكرَ كلٌّ منهما على الآخر..

فالكارثةُ – يومئذٍ - أعظمُ. وسوفَ أضربُ لك الأمثالَ: الرقابةُ الإداريةُ كشفتْ خلالَ الأيامِ الماضيةِ مُخالفاتٍ رهيبةً لمُحصِّلى الكهرباءِ، حيثُ تبينَ أنَّ بعضَهم يُغالطُ في تسجيل أرقامٍ خاطئةٍ للمُستهلكين منِ واقعِ العدَّاداتِ لنقلِهم منْ شريحةٍ أدنى إلى شريحةٍ أعلى.. هل تعلمُ لماذا؟ لأنَّ "السادة المُحصلينَ" يستفيدون ماليًا كلما كانتْ الحصيلةُ أعلى. "مُحصِّلُ الكهرباءِ" يتعاملُ مع "المُستهلكِ"، ليسَ باعتبارهِ مواطنًا مصريًا مثلَه، ولكنْ باعتباره فريسةً يجبُ اصطيادُه أو الاستفادة منه أكبرَ استفادةٍ مُمكنةٍ.

هذهِ ليستْ مُجردَ مُخالفةٍ إداريةٍ فحسبْ، بلْ مُخالفةً أخلاقيةً بامتيازٍ.. ولكنَّ الأخلاقَ صارتْ نسيًا مَنسيًا ولا اعتبارَ لها في مُجتمعٍ مادىٍّ.. في هذهِ القضيةِ.. الحكومةُ هي مَنْ سرقتْ وخدعتْ وتحايلتْ وتماكرتْ.. كيفَ تطلبُ الحكومةُ الأمانةَ منْ الشعبِ وهى التي تقترفُ معه وفيه إثمَ الخيانةِ؟

الحبُّ منْ طرفٍ واحدٍ شططٌ وسذاجةٌ وجنونٌ. خلالَ فتراتٍ ماضيةٍ.. كانَ المُستهلِكونَ يجأرونَ منْ القِيم الخُرافيةِ لفواتير الكهرباءِ، وعدمِ تناسُبها معَ استهلاكهِم الحقيقىِّ، لا سيَّما أنَّ العداداتِ الخاصةَ بهم لا تسجلُ تلكَ الأرقامَ الوهميةَ.. بدورِها.. كانتْ الوزارةُ تتجاهلُ الشكاوى. وتطلبُ منْ كلِّ ذى شكوى أنْ يدفعَ مُقدمًا ثمَّ يتظلمُ..

منطقٌ ظالمٌ ومعكوسٌ.. ما لا تعلمُهُ الرقابةُ الإداريةُ.. أنَّ هناكَ مُخالفاتٍ شبيهةً تُقترَفُ داخلَ إداراتِ وزارةِ الكهرباءِ المُختلفةِ، وهذهِ المرةَ.. ليستْ معَ أصحابِ العدَّاداتِ، ولكنْ معَ منْ يدفعونَ ما يُعرفُ بـ "المُمارسةِ"، حيثُ يُساومُهم المُوظفونَ- على الملأ- بنقلِهم إلى فئةٍ أدنى نظيرَ دفعِ "المعلوم طبعًا"، فضلًا عمَّن يتمُّ إعفاؤهم نهائيًّا منْ الدفع، هذا تمييزٌ بغيضٌ جدًا لا يُقرُّه قانونٌ أو دستورٌ!!

تلكَ الوقائعُ ليستْ استثناءً، بل صارتْ سلوكًا مُتكررًا منْ جميع الجهاتِ الحكوميةِ التي تتعاملُ معَ الجمهور.. الحكومةُ هي التي بعثرتْ خضرواتِ البائعةِ الدمياطيةِ "كريمة حمدان".. المشهدُ كان مؤسفًا ومؤلمًا.. هذا ليسَ تطبيقًا للقانونِ، بلْ هىَ الفوضى في أقبح صورِها. طبِّقوا القانونَ أولًا على الكبارِ، أما الصَّغارُ الضُّعافُ فخذوهم باللُّطفِ وعاملوهم بالحُسنى.

"كريمة حمدان" ليستْ وحدَها، ولكنَّ سُلطانَ "السوشيال ميديا" أبرز مأساتَها، ما دفعَ الحكومةَ إلى الخجَلِ أو اصطناع الخجل. مُوظفو المحلياتِ يُمارسون على الغلابة والبسطاءِ أبشعَ صور البلطجةِ. ما الذي يجعلُ مُوظفًا بالمحلياتِ، لا يتجاوزُ راتبُه بضعةَ مئاتٍ منْ الجُنيهات، مليونيرًا؟ لا أحدَ يراقبُ، ولا أحدَ يسألُ: منْ أينَ لكَ هذا؟ إذا كنتَ مالكَ سيارةٍ "ملاكى/ أجرة"، فمنْ المؤكدِ أنَّ شُرطيًا اعترضَ طريقَك- مرةً على الأقلِّ- وهددَك بدفعِ غرامةٍ "هُلامية"، حتى يُجبرَكَ على أنْ تدفعَ له "إكراميةً/ رشوةً" خارجَ إطار القانون، لُيطلقَ سراحَكَ.

ومنْ المؤكد أنكَ عندما ذهبتَ لتجديدِ رُخصة السيارة، تمَّ إجبارُكَ على الدفع أيضًا حتى تُنهى يومَك في "وحدةِ المرور سريعًا وبأقلِّ الخسائر.. هذهِ العلاقةُ المُتوترةُ بينَ الحكومةِ والشعبِ كانَ يجبُ أنْ تنتهىَ في السنواتِ الأخيرةِ، لكنها تفاقمتْ وازدادتْ سوءًا وتوتُرًا.. لا يصحُّ أنْ تَنهى الحكومةُ الشعبَ عن خُلقٍ وتأتىَ مثلَه، عارٌ عليها إنْ فعلتْ عظيمٌ، وهى تفعلُ بكلِّ أسفٍ!

الأجهزةُ الرقابيةُ لا تضبطُ جميعَ أخطاءِ وخطايا مُوظفى الحكومةِ.. ولكنْ وفقًا للنظرياتِ الأمنيةِ العالميةِ.. فإنَّ النسبة المضبوطة لا تتجاوزُ 10 % منْ إجمالى تلكَ الأخطاءِ.. أخطاءُ موظفى الحكومة بحقِّ الشعب، تتجاوزُ بكثيرٍ أخطاءَ الشعبِ ضدَّ الحكومةِ.. فالشعبُ يعتمدُ على الحِيلةِ، أمَّا موظفو الحكومةِ فيحتمونَ بقوة القانون.. حتى لو كان قانونًا ظالمًا وباطشًا..
الجريدة الرسمية