رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

لماذا يتسولُ المصريونَ؟


في إشاراتِ المرور، وأمامَ أبوابِ المساجد والمتاجر والمطاعم والمراكز التجارية وفي أي مكانٍ لا يخطرُ لكَ على بالٍ.. سوف تجدُهم مُرابطين، كأنهم يخرجونَ لكَ من تحت الأرض، المُحترفونَ منهم يطاردونك ليَظفروا منك بما تجودُ به عليهم، أما الهُواة وحديثو العهدِ بالمهنةِ فيكتفونَ بالصمتِ حينًا وبهمهماتٍ بائسةٍ أحيانًا أخرى، لكنهم قادرونَ أيضًا على استدرار عطفِك.


عذرًا صديقي القارئ.. لا تتسرعْ فتغضبَ أو تنفعلَ زاعمًا أنَّ هؤلاءِ فقراء مُعدمونَ ولا ضيرَ أنْ يتصدَّقَ عليهم مَنْ يسَّرَ اللهُ أحوالَهم، أعلمُ أنَّ في مِصرَ فقراءَ بالملايين، الإحصائياتُ الرسمية تقدرُهم بنحو 30% من المصريين، أي نحو 35 مليونًا، وهو رقم –لو تعلمونَ- عظيمٌ، ويزيدُ على سُكَّانِ عِدةِ دولٍ خليجيةٍ أو أوروبيةٍ مُجتمعةَ.

دائرةُ الفقر تتسعُ كلَّ يومٍ في ظلِّ ظروفٍ اقتصاديةٍ طاحنةٍ.. لكنْ هلْ هؤلاءِ المُرابطونَ في الشوارع وعلى النواصي وفي الطرقاتِ وأمامَ المساجد فقراءُ حقًا؟ الإجابةُ بكل وضوحٍ: لا!!

الفقراءُ الحقيقيونَ لا يتكففونَ الناسَ غالبًا، بلْ قدْ يحسبُهم الجاهلُ أغنياءَ منْ التعفُفِ. لكنَّ هناكَ بَشرًا فقدوا نخوتَهم، واتخذوا منْ استجداءِ الناس مِهنة وعملًا، لا يُكلفُهم الأمرُ كثيرًا: ملابسُ رَثَّة، وجهٌ باهتٌ، قدرةٌ على التباكي، مهارةٌ في الاستجداءِ وإثارة الشفقةِ، "شطارة" في المُطاردة.

في كلِّ مرة تُوقفُ الشُّرطةُ أحدَهم، تجدُ في جيوبه بضعةَ مئاتٍ من الجنيهات، حصيلة نصف يومٍ على الأكثر، ما يعادلُ راتبَ موظفٍ كبيرٍ في شهرٍ، قبلَ أنْ يتبينَ لها أنه مليونيرٌ يحوزُ عِقارًا أو أكثرَ، ويمتلكُ حسابًا جاريًا بأحدِ البنوك، قبلَ عامين.. تمَّ القبضُ على مُتسولٍ بشارع "فيصل" بالجيزة، تبينَ أنهُ يمتلكُ أربع بناياتٍ في مسقطِ رأسِه بمُحافظةِ "بني سويف"، وأربعةَ ملايينَ جُنيهٍ بأحدِ البنوكِ الحكوميةِ.

إذنْ.. أصحابُ هذهِ الفئةِ، ليسوا مُعدَمينَ أو فُقراءَ، ولا حتَّى منْ الطبقةِ المتوسطةِ "المتآكلة"، بل ينتمونَ لطبقةِ الأثرياءِ "حرفيًا"، المتسولونَ أصحابُ الخبراتِ لا تكفيهم جُنيهاتُ المصريين، التي مهما كثرتْ لا تملاُ عيونَهم الفارغة، ما يدفعُهم إلى السفر في مواسم الحَجِّ والعُمرة، ليعودوا بحصيلةٍ وفيرةٍ تُمكنُّهم منْ دفع رسوم المدرسة الخاصة لأبنائهم، والاستحواز على شقةٍ أو فيلا فاخرةٍ، وشراء أحدثِ الهواتف المحمولة، وادخار ما تبقى في دفتر توفير أو في الحساب الجارى بالبنك.

ثقافةُ التسوُّل لم تتوقف عند مُحترفي التسول، لكنها تمددتْ وتوغلتْ عندَ فئاتٍ كثيرةٍ منْ بينها: مُقدِّمو الخدماتِ الحكوميةِ، كبارًا كانوا أوْ صغارًا "بكلِّ أسفٍ"!. باختصارٍ غيرِ مُخلٍّ.. أصبحنا نعانى في بلادِنا من تفشِّي "ثقافة التسول" على نطاقٍ واسعٍ، الحكومةُ تتحملُ جانبًا مُهمًا منْ المسئولية.

مُرتزقةُ المشروعاتِ الخيرية يتحملونَ جانبًا ثانيًا، الإعلامُ يتحملُ جانبًا ثالثًا، الإستراتيجيةُ التي تتعاملُ الحكومةُ بها مع الفقراء "خائبةٌ وساذجةٌ"، إستراتيجيةٌ قائمةٌ على المُسكِّناتِ وليس فتحَ آفاقٍ للعمل والحياة والرزق. أمَّا مُرتزقة المشروعات الخيرية فيتبعونَ نفسَ السياسة، وهى سياسةُ توزيع صناديق الغذاء والملابس المستعملة والمبالغ المالية المحدودة للفقراء والتقاط الصور التذكاريةِ معهم.

أمَّا الإعلامُ فإنهُ يتورطُ مُتعمداَ، لا سيَّما في شهر رمضان، في الترويج لتلك المشروعات، ليس لوجهِ اللهِ، ولكنْ لأنَّ القائمينّ على ذلك يحصلونَ على جزءٍ وافرٍ من "الكعكة". ومن ثمَّ.. فهؤلاءِ شركاءُ أيضًا في التسُّول. وفيما يتفنَّنُ المُصريونَ كلَّ يومٍ في ابتكار طرُق ووسائلَ جديدةٍ للتسوُّل..

نجدُ السُّوريين الفارِّين من بلادهم تحت وطأة الحرب يعملون بكلِّ دأبٍ، ويفتتحون المشروع الناجح تلوَ الآخرِ ويتوسعونَ في القاهرةِ والأقاليم. وأمامَ مشروعات السوريين المُغتربين، يتخذُ المصريونَ، كالعادة ودونَ خَجَلٍ، مواقعَهم للتسوُّل واستجداءِ المارَّة، في مشاهدَ مؤسفةٍ ومُخزيةٍ لا تنتهي، فهل يأتي يومٌ تنطلقُ فيه مُبادَرة "لا للتسوُّل"، وتتطهرُ شوارعُ مِصرَ من المُتسولين إلى الأبدِ؟
Advertisements
الجريدة الرسمية