رئيس التحرير
عصام كامل

ماتت بشعرها!


أتذكر جيدا وفاة أحد الشباب من جيراننا في حادثة سيارة منذ ما يقرب من 30 عاما، كانت الوفاة ليلا وكان هذا الشاب رحمه الله، قد لحق بأخيه بعد عام بالتمام في حادثة مشابهة، تجمع أهل الحي قاصدين بيت الفقيد، من يعرفه ومن لا يعرفه، الكل تقريبا كان حقا في واحد في سيمفونية رائعة من التكافل الإنساني والنفسي والمادي أيضا لا تضع أية حدود بين البشر.


تكفل البعض بإحضار الجثمان من الإسكندرية لدمنهور، وذهب البعض لاستخراج تصاريح الدفن وتجهيز المقبرة، وجلست النسوة مع أم الفقيد، من تدعي له، ومن تشارك أمه البكاء صدقا أو حتى مجاملة! ولكن الجميع اتفقوا على شىء واحد، وهو الدعاء بالرحمة له رغم ما كان مشهورا به، رحمه الله، من طيش كان يزعجهم بعض الشىء!

كل ذلك انتهى وبقيت فقط الرحمات من الجميع، لم يكن هناك في شارعنا وحوارينا سلفيون أو (ملتزمون) كما يحبون أن يطلقون على أنفسهم، ولكن كان هناك تدين فطري بمسحة إنسانية راقية لا تحاسب الإنسان إذا ارتقى لجوار الرحمن الرحيم، قطعا لم يستطع أحد أن يشغل أية أغانى في كاسيت أو راديو لفترة محترمة، حتى لعب الكرة بجوار بيت الفقيد كاد أن يتلاشى لمدة ليست بالقصيرة!

كان ذلك هو حال المصريين منذ ثلاثة عقود خلت أو يزيد، رقي إنساني وقرب من الله دون رتوش اصطناعية، أو دعاية فجة أو مباهاة بالتدين الزائف الشكلي والنمطي، دين معاملات وحسب، مراعاة للجار ولحقوقه في الحزن النبيل قبل الفرح.

ما جعلني أسترجع هذه الحادثة، هو موت فنانة نصف مشهورة في حادث مروع منذ أيام قليلة، بداية من تناول كثير من الصحف للحدث، تشعر بأن الإنسان لا يساوي شيئا ما دام ليس مشهورا بالشكل الكافي، ليس نجما لامعا بالشكل الكافي لتلميعه متوفيا، وليس لصا شهيرا أو حرامي مال عام، ربما كان الإجرام مصدر فخر ودعاية، ومدعاة لتبجيل صاحبه عند موته أكثر في هذه الأيام السوداء.

نشرت غالبية الصحف الخبر كالآتي: وفاة (... ) الأخت غير الشقيقة للفنانة الشهيرة فلانة، ثم أتبعتها بسرد للعلاقة غير الطيبة التي كانت تجمعهما، دون مراعاة لحق ميت أو حي، ثم أُتبع ذلك بفيديوهات توثيقية لإساءة كل منهما للأخرى، ثم التذكير في نهاية الخبر أن الفقيدة كانت أيضا فنانة، ولكن بالقطع ليست في نجومية ومقام وقدر أختها!

لم تتوقف الحكاية عند ذلك، فلقد واصلت الصحف والمواقع الخبرية نشر ردود قديمة للأختين ضد بعضهن، ثم اختتمت أخيرا هذا العبث وتلك المهزلة الإنسانية بعد عدة أيام من الوفاة، بخبر عن بكاء الشقيقة الكبرى حزنا على أختها، بل والسماح بدفنها في مقبرتها الخاصة!

بشعرها يا جماعة!
انتقلت المهزلة فورا لصفحات فيس بوك وخاصة عند صفحة الفقيدة، رحمها الله، وجدت بعض الفنانات من صديقاتها في المجال الفني، ومن صديقات فيس بوك يسارعون بالتعليق حزنا وبالدعاء للمرحومة، ولكن الكثيرات منهم طالبت بحذف صور المرحومة والتي كانت بملابس قصيرة أو بغير حجاب!

المثير أكثر من ذلك أن من يطالبن بحذف صورها، لأنها انتقلت لرحاب الله ولا يصح نشرها لأنه حرام، كانوا من أشد المعجبات والمعجبين بتلك الصور منذ ساعات بل دقائق قبل موتها، بل إن صفحاتهن الشخصية مليئة بصورهن الخاصة غير اللائقة، أو (بشعورهن) كما يصفن غير المحجبات أو أنفسهن!

ليس من حقي قطعا الحديث عن الحجاب واستحباب الحشمة، فكل إنسان أدرى بدينه وبحقوق خالقه عليه، ولكن إن كن يعتقدن أن الحجاب فرض، وأن الصور غير المحتشمة تغضب الرب فلم لم ينصحن أنفسهن أولا!

الموت يقرب الإنسان من الخالق ويفيقه لثوان قليلة، ويشعره بأنه ملاقيه يوما، عظيم جدا، فهل تنتظرن موعدا مسبقا بموتكن حتى تفعلن ما يرضى الله وفقا لما تعتقدون وليس وفقا لكاتب المقال!

وبالفعل تم حذف الصور من قبل أسرة الفقيدة، مع رجاء وتوسل بالبحث لها عن صور بغطاء الرأس لنشرها إن كن يردن نشر صور شخصية أو فنية لها! الفقيدة كانت محجبة أو بغطاء الرأس الذي يطلقون عليه الحجاب، في بدايتها قبل الشهرة القليلة وقبل الدخول في عالم الفن والغناء والتمثيل!

رحمنا الله جميعا أحياء وأموات، وأعادنا لقيم الحواري والأزقة التي كانت أكثر رقيا وإنسانية وتدينا من عاباث وعابثي عصر النفاق والتيه، الذي نكابده منذ سنوات.
fotuheng@gmail.com

الجريدة الرسمية