رئيس التحرير
عصام كامل

«سيدات الجمبري».. حكاية «نساء شكشوك» مع «دهب البحر» (معايشة)

فيتو

أكثر من أربعين عاما، مرت على السيدة "أم حمادة" ابنة قرية "شكشوك" بمحافظة الفيوم، وهي تتخذ الركن ذاته أمام منزل "الحاج عيسى" بائع الجمبري الدمياطي والعريشي، متكئة بذراعها فوق الوعاء الألومونيوم الكبير، انتظارا لقدوم السيارة المحملة بالجمبري ذي الحجم الصغير جدا، تتزاحم مع النسوة المرابطات أمام المنزل منذ الساعات الأولى من الصباح، بجسدها الضئيل وعزيمتها التي تناسب عمر سيدة تجاوزت خط الستين بقليل: "من يوم ما زوجي سافر الغردقة بعد ما الصيد اتوقف في بحيرة قارون وأنا بطلع كل يوم من الصبح أمارس مهنتي القديمة وهي تقشير الجمبري وتنظيفه لتوريده لمصر والمحافظات البعيدة".


لم تكن أم حمادة التي تعيل أسرة مكونة من 8 أفراد بيومية لا تتعدى الثلاثين جنيها، وحدها في شكشوك التي اتخذت مهنة تقشير الجمبري وتنظيفه مصدرا لكسب الرزق وإعالة الأسرة بعد أن سافر معظم الأزواج في القرية إلى المدن الساحلية وبحيرة ناصر بأسوان، طلبا للرزق بعد أن تقطعت بهم السبل وباتوا محاصرين بالجوع ووقف الحال، بينما يأكل التسمم قاع بحيرة قارون ويقتل كافة ما تنتجه البحيرة من أسماك.

في القرية التي يتجاوز عدد سكانها الـ30 ألف نسمة بقليل، أصبح أمرا مألوفا أن تجد أمام كل منزل سيدة أو أكثر منكفئات على آنية كبيرة مليئة بالجمبري الصغير، يقشرنه ويجهزنه لإعادته مرة أخرى للتاجر الأصلي، ويطلق العديد من الأهالي على الجمبري "دهب البحر" لأنه مصدر رزق لكثير من أسر القرية الصغيرة.


خمس منازل على مستوى القرية يتكفلون بشراء الجمبري من دمياط والعريش ومحافظات أخرى وإدخاله للقرية، ومن ثم توزيعه على السيدات، كل واحدة حسب الكمية التي تستطيع رأسها تحملها والسير بها نحو المنزل أو المكان المخصص للتقشير: "إحنا بنيجي كل يوم من الساعة 8 الصبح ننتظر بالطشت أمام منزل الحاج عيسى عربية الجمبري لما توصل وهو بيمسك كشف ينادي علينا بالاسم ويعبئ لنا الجمبري ويسجل الوزن اللي أخذناه علشان يحاسبنا عليه، وأجرة تقشير كيلو الجمبري لا تتعدى خمسين قرشا".. هكذا أكدت المراهقة الصغيرة آية التي تشارك والدتها مهنة تقشير الجمبري منذ نعومة أظافرها.


أمام منزل الموزع الحاج عيسى تتخذ آية ذات الـ 17 عاما مقعدا لها، تتسامر مع الفتيات اللاتي حضرن للسبب ذاته، تتعالى ضحكاتهن فتكسر صمت السيدات المفترشات الطريق في ملل: "أجمل وقت في اليوم هو وقت الجمبري علشان بنتجمع هنا!. بيطلع لنا قرشين في الشهر أو الأسبوع أو حسب ميعاد تقبيض الفلوس بنساعد فيه على المعايش".


تمر عملية توزيع الجمبري بصخبها وصراخ النسوة المتقطع، يطغى الهدوء على محيط منزل الحاج عيسى، تتجه كل سيدة إلى منزلها لتقشير الكمية التي تحملها فوق رأسها، ثم العودة آخر اليوم بما يطلقون عليه "اللحم"، بعدها تبدأ المرحلة الثانية لتسليم الجمبري بعد تقشيره والحصول على الأجر.

"معظم الناس هنا بتبيع سمك بجانب تقشير الجمبري لأن قشر السمك مع قشر الجمبري بيساعد على نمو البط الأبيض بشكل أسرع، ونحن هنا كل مصدر طعامنا من اللحوم هو البط لأن الفراخ أصبحت أسعارها خيالية واللحمة ما بنعرفهاش إلا في الأعياد".. بتلك الكلمات بدأت إحدى سيدات القرية حديثها عن سر امتهانها مهنة تقشير الجمبري: "التقشير لا يعد مجرد وسيلة لكسب لقمة العيش فقط بل غذاء أوحد لمصدر البروتين الوحيد لجسدهم، 10 بطات تسد احتياجات أسرة بالقرية مدة شهرين على الأكثر، إحنا بنقشر الجمبري لكن عمرنا ما نعرف طعمه الكيلو بـ 120 جنيه يعني قبضية شهر كامل!".

أم هاني صاحبة الدور الأهم في الحكاية، حيث ترسل ابنتها شيماء إلى عيسى وتحضر الجمبري ثم تستدعي السيدات ويقمن بتقشيره، ومن ثم توزيع القشر بعد الانتهاء عليهن بالتساوي، وأيضا "القبضية" كلما حان موعدها: "معظم الستات هنا جايين يقشروا لأجل يطعموا البط اللي في بيوتهن، وأهي اللي بيطلعلها قرشين بتساعد على المعيشة بعد ما أصبح الأزواج يوم شغالين وعشرة مش موجودين"، تتحدث أم هاني التي عادت لمهنة تقشير الجمبري التي ورثتها عن والدتها منذ نحو ثلاث سنوات بعد أن انقطعت عنها بالزواج: "زوجي بطل صيد وقعد في بيته أرزقي منتظر لقمة العيش، الستات هنا حملهم تقيل".



المصير ذاته لحق بكل سيدة منكبة على آنية التقشير، زوج مارس الصيد لسنوات في البحيرة التي وُهبت له منذ أن ولد وقدر له العيش في قرية تحتضنها محافظة الفيوم، تم ما لبث أن تلوثت المياه وانقطع الصيد وأصبح الرجال يفرون خارج القرية، يغيبون بالشهور، لا تربطهم بزوجاتهم وأولادهم إلا المبالغ التي يرسلونها بين الحين والآخر للزوجة ، وتتحدث أم طه إحدى سيدات القرية قائلة: "زوجي كل ثلاث شهور بيبعت 400 أو 500 جنيه بيساعدوا مع ما أكتسبه من تقشير الجمبري أو تكبير البط وبيعه أحيانا".. . 


الجريدة الرسمية