رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

رحيق الذكريات في يوم النصر!


كنت عائدًا من مدرسة المنصورة الثانوية العسكرية، وعادة كنت أمُر من شارع الثانوية إلى شارع الصنايع في طريقي لشارع بسيم، وكان عند التقاطع محطة الأتوبيس الأحمر الشهير، وحين اقتربت من المحطة سمعت مذياعًا عالي الصوت من شارع الثانوية فتوقفت وأردفت السمع، فإذا بالمذياع يُذيع البيان الأول للقوات المسلحة، ويبدو أنه قد أذيع من قبل، لذا فقد ارتفع صوت المذياع على آخره في الإعادة.


والبيان غير مفهوم فقد قال: "قامت قوات العدو بالهجوم علينا في منطقة الزعفرانة والسخنة بَخليج السويس وزَوارقه تهاجم الشاطئ الغربي للقناة وقد قامت قواتنا المسلحة برد الهجوم".

لم يذكر البيان عبور قواتنا أو أي شيء ربما من باب الحيطة حتى لا تتكرر مأساة بيانات ٦٧ التي أفقدتنا الثقة في بيانات الجيش، أسرعت الخطى إلى المنزل القريب وفتحت الراديو الترانزستور التوشيبا الياباني، وبحثت عن محطة مونت كارلو التي كانت مَصدرنا للمعلومات الصحيحة، لأعرف منها أن الجيش المصري هو الذي هاجم منذ دقائق الشط الشرقي للقناة.

عدت سريعًا إلى إذاعة البرنامج العام لاستمع للعديد من الأغاني الوطنية وهو ما لم يكن معتادًا وقتها في حالة إلَّا سِلم وإلَّا حرب، تلاه البيان الثاني ثم الثالث وكلاهما يتحدث عن هجوم العدو ونجاحنا في صد العدوان واشتباك طائراتنا مع طيران العدو وقذف مواقعه ردًّا على الاعتداء الغادر!

كان البيان الرابع نحو الساعة الرابعة عصرا أكثر وضوحًا ليعلن عبور قواتنا لقناة السويس في عدة مواقع ومهاجمة خط بارليف!

لم أصدق ما سمعت فقد كنا في أشد الشوق لهذه الحرب لأخذ الثأر من العدو المغرور الذي انتزع أرضنا وأذلنا لست سنوات مرت علينا كالدهر حتى يئس الكثيرون من عودة الأرض ثانية.

ها أنا في الثانوية العامة وقد أعدَّتنا المدرسة العسكرية للحرب بالتدريب على حمل السلاح، وها نحن على مشارف الجامعة ولم نحارب، منذ سنتين ثار طلاب الجامعات وقاموا بالمظاهرات العارمة مطالبين بالحرب، فقد كنا نكره ما كنا عليه وكان السادات وقتها رئيسًا ضَعِيفًا وغير مقنع لأحد، وكنا نراه قدرًا بعثه الله لنا ليملأ عباءة عبد الناصر فغرق فيها.

فتحنا التليفزيون وكان يبدأ إرساله في الخامسة مساءً لنرى أول فيديوهات العبور التي وجدناها تعاد مرات ومرات على موسيقى أغاني وطنية لعبد الوهاب وأم كلثوم والمجموعة، ثم توالت البيانات من قيادة القوات المسلحة.

خرجت إلى الشارع لشراء بعض الاحتياجات المنزلية فهالني المنظر، جميع الراديوهات مفتوحة على أعلى صوت وحين يذاع بيان حتى لو كان معادًا تتوقف الحركة ويجري الجميع لأقرب راديو لسماع البيان، كنت أحس بنشوة غريبة وسط هذه المجموعات فكلنا أصبحنا فجأة أسرة واحدة تجتمع معًا وتعرف بعضها البعض دون سابق معرفة.

كان عبق الانتصار في الجو تحسه وكأن الكون قد غير حاله وتحول في لحظة إلى جنة ما لها من مثيل، تناسى الناس خلافاتهم فأصبحنا كتلة واحدة يحذوها الأمل بدوام النجاح لما نسمعه.

بالأمس كانت سينما "عدن" تعرض فيلمًا هابطًا وقد اعتدنا في هذه الفترة على أفلام العرِّي والابتذال التي كانت تناسب المعنويات الهابطة منذ وقف إطلاق النار قبل موت عبد الناصر بأسابيع، كنا لا نعرف إلى أين نسير وإلى أي مستنقع يحملنا القدر، كانت أحاسيسنا مزيجا عجيبًا من الحزن والغضب وفقدان الأمل فإذا بِنَا نفيق على نغم عذب دقته خطوات جنودنا وهي تعبر القناة قائلة الله أكبر.

لقد كان هذا الهتاف من وحي اللحظة ولم يحفظه الجنود ولم يدربهم عليه أحد، في الْيَوْم الثاني غنت المجموعة لحنًا شجيًا ما زال في أذني حتى الْيَوْم "بِسْم الله.. الله أكبر باسم الله.. باسم الله"، كلمات عبقرية ولحن قوي وحناجرنا تردده بعفوية في كل لحظة مع الراديو حتى لو توقف تستمر عقولنا في ترديده إلى أن يُذاع مرة أخرى.

توقفت الجريمة تمامًا في جميع أنحاء مصر، تحول الشعب فجأة إلى شعب نادم على ذنوبه وقوله وفعله ويرجو عنهم التطهر والغفران، الشباب الذي ثار على حكومته بالأمس يتمنى أن يحارب ويحسد كل من له شرف القتال والاستشهاد، ورئيس الأمس الذي كان سخريتنا اليومية أصبح قائدًا وبطلًا عظيمًا يشار إليه بالبنان.

كنا نسخر من طريقته في الكلام فإذا بِنَا نعشقها وكأنها طرب أصيل، خجلنا حتى من شعورنا الطويلة وقُمصاننا المحزقة والملوّنة وتمنينا أن نكون بأناقة كل جندي وضابط في ميدان المعركة، لم ينتصر الجيش لكن انتصر الشعب المصري بأكمله، أصبحنا جميعًا في الجهاد الأكبر والأصغر في آن واحد.

كنت أعيب على عادة الثأر في صعيدنا فأصبحت منتشيًا بلذة مسح العار الذي دنسنا لسنوات، اكتشفت أن جينات الثأر مزروعة في أنسجتنا، سهرنا الليل نستمع إلى بيانات الجيش التي توالت وهي تزف البشائر وبينها الأغاني الوطنية التي تشعل جزوة الحماس في أجسادنا فترتجف وفِي نفوسنا فتنتعش.

أصبحت قلوبنا تُعانق بعضها البعض وأعيننا تعشق رؤية البسمة في وجوه من حولنا، أصبحنا فعلًا شيئًا آخر لا أقدر مهما حاولت على وصفه الآن بالكلمات، سهرت الليل وأنا أترقب البيانات خوفًا على جنودنا البواسل، لم أرغب في الذهاب يومها للمدرسة حتى لا يفوتني بيان واحد أو مشهد أو أغنية.

لقد عشنا أيامًا من الزهو عرَّفتنا ما هو معناه ولحظات من الفخر والتباهي أسكرت عقولنا بأفضل ما تمنيناه، لقد عاش جيلي هذه الأيام العطرة التي قلما يجود الدهر بمثلها، فتمنيت أن أنقل بعض هذه الأحاسيس لأولادنا ليعرفوا قيمة وقدرة حبيبتنا مصر، حين تصمم فتفعل وحين تصبو فتنول مرادها حتى لو بَعُد أو أخفاه الضباب!
Advertisements
الجريدة الرسمية