رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

محمود عبد الدايم يكتب: المعاش

محمود عبد الدايم
محمود عبد الدايم

هل قابلت أحدًا من قبل يحلم؟!
كعادته.. مفاجئًا ألقى سؤاله على صديقِه الغارق في أحلامِه وحواره.. لم ينتظرْ إجابتَه.. ردَّ مُتقمصًا شخصيته.. صوته.. حركاته.. ضاغطًا على مخارج الحروف كما يفعل صديقه.


- لا لم أفكر.. من الأساس لا أحلم.. وإنْ غفا القدر قليلًا، ووجدَ الشيطانُ الفرصة سانحة أمامه وقرر أن يجعلني أحلم.. قطعًا.. سأحلم أن أكونُ قاتلًا مأجورًا في أحلامي.. فتاة ليل.. تعرف سأحلم أن أكون ملاكًا للموت.

صديقه يعرفه جيدًا عندما يصل إلى هذه الحالة.. يلتزم الصمت.. يُشعل سيجارة.. يمنحه إياها ويكمل سرحانه.. تاركًا له المساحة الممكنة لـ«الفضفضة».

- سأقبض الأرواح..
نفث دخان سيجارة صديقه فخرجت الكلمات مختنقة بعض الشيء.. تنفسَ قليلًا.. ألقى بنصف عين نظرة إلى جواره.. وقال:

- ممتع جدًّا أن تكون صاحب قرار في هذه الحياة.. وأي قرار.. الموت.. لكن بعد أن أنتهي من الجميع.. ماذا سأفعل.. ستفاجئني السنوات وقد مرت.. سأصحو ذات صباحٍ لأجدَ خطابًا مررهُ ساعي البريد من تحت فتحة باب الشقة، يُخبرني فيه رئيسي في العمل أنني لم أعد صالحًا لقبض الأرواح.. سيكتب لي كلمات كثيرة.. لن أقرأها.. بالطبع.. سيثني على مجهوداتي في القتل. 

إسدال الستار.. الاختفاء جيدًا خلف كواليس العمر.. سيذكرني بأيامي الأولى في العمل.. بموقف استحققت عليه ترقية.. وآخر منحني من أجله علاوة.. بالطبع لن يذكر عدد الأرواح التي أدخلتها ملفات المؤسسة.. لن يذكرني بالفتاة التي حصلت بسببها على أول جزاء.. نقطة سوداء وحيدة في ملفي..بعدما زوَّرتُ تقريرَ قبضِ روحِها، ليكتشف زميل لي بعد سنوات أنها على قيد الحياة.. فيقبض روحَها لحظةَ مخاضِها.. وزيادة في الحقد يقتل جنينها.. سيخبرني أن المؤسسة ستنظم حفلًا لي.. سأحصل على شهادة تقدير.. ستكون الشهادة رقم 101.. أمتلك 100 شهادة تشير إلى كفاءتي في منح الموت.. ستنتهي الليلة وأنا على «قابض أرواح سابق».

- سأقف مطلعَ كلِّ شهرٍ أمام شباك المعاشات، نسيت أن أقولَ لكَ.. المؤسسة التي أعمل فيها ترفض رفضًا قاطعًا قبضَ أرواحِ الكبارِ.. العواجيز.. تتركهم للطبيعة.. لأبنائهم.. لزوجاتهم.. للصوص المعاشات.. يقتلونهم على مهل.

- سأكون الوحيد بين الطوابير من يحصل على ثمن متعته.. سيدفعون لي كثيرًا.. ممم.. لا.. من الممكن ألَّا يدفعوا.. فموظف الشباك سيعرف أنني من قبضت روح أمه.... جارته.. صديق الطفولة.. ومنحت زوجته ألف فرصة للحياة.. سيدعي أن الدفاتر بها خطأ.. ختم النسر باهتٌ.. والنسر لا يصح أن يكون باهتًا..الملعون سيدخلني في دوامة تعديل الخطأ.. سينتقم مني بـ«الروتين».. تعرفني أنت.. أكره الوقوف في الطوابير.. المرور على مكاتب الموظفين.. لصق ابتسامة سمجة على وجهي وأنا أطالع مكتبَ مديرٍ.. الانحناء قليلًا لأتمكن من الحصول على تأشيرته.. لا.. لا.. لا أريد أن أكون ملاكًا للموت.. سيقتلني الروتين.. سأموت مائةَ مرةٍ في اليوم.. ستتعلق روحي بـ«بشباك الموظف المنتقم».. سأفكر في حلمٍ آخر.

بدوره.. أشعل سيجارة واحدة.. لم يردها لصديقه.. أزاحها بحركة من شفتيه -المائلة قليلًا إلى الزرقة- لترقد في جانب فمه مستكينة.. نفث خيطَ دخانٍ رفيعًا من الجانب الآخر.. وقال:

- ما رأيك في فتاة ليل.. ممتعة الوظيفة هذه.. قطعًا سأدخن.. فتيات الليل يختفين دومًا وراء سحابات الدخان.. الليالي تكون طويلة جدًّا على الضعفاء.. يكسرون حدتها بالتدخين.. لكنني لم أقابل فتاةَ ليلٍ قويةً.. كلهنَّ ضعيفاتٌ.. مريضاتٌ.. كاذباتٌ.. يمتلكْنَ حكايةً واحدةً مستهلكةً، تلقيها الواحدة بآلية على أُذنِ الزبون، وعيناها على جيوبه الممتلئة،. فتيات الليل لا يُتقنَّ الأحضانَ الدافئةَ.. بارداتٌ دائمًا.. دائما أشعر أنَّ لديهن فتحاتِ تهويةٍ قريبةَ الشبهِ بفتحاتِ تهويةِ أجهزةِ تكييفِ العلبِ الليلية التي تضمهنَّ ليلًا وتلفظهن مع أولِ ضوءٍ.. فتحات تخرج منها برودة لزجة. خانقة.. سيئة الرائحة.. لم أقابل يومًا فتاة ليل دافئة.. كلهنَّ شتاءٌ.. شتاء.. شتاء.. وتعرفني أنتَ أكرهُ الشتاء.. الكذب.. الحكايات الملفقة.. الأيدي المختلسة.. الأنفاس العفنة.. سأموت من أول ليلة.. مع أول زبون.. سأموت بفعل العُهر.. لا.. لا.. لا.. أحتاج إلى وظيفةٍ أخرى.. حلمٍ دافئٍ.. بلا فتحات تهويةٍ.

قفزَ في الهواء.. حقيقةً لم يقفزْ.. لكنَّه منحَ روحَه متعةَ الطيرانِ للحظةٍ.. لم يصرخْ وَجدْتُها.. لا يعرف نيوتن أو تفاحته ليقولها.. ورغم هذا قفزته الوهمية.. ملامح وجهه التي تبدلت سريعًا إلى الفرح.. السيجارة التي تركها تسقط دون أن يكلف نفسه عناء التقاطها، بعدما اطمأنَّ إلى أنَّها ارتطمتْ بالإسفلت.. تؤكد أنه «وجدها»..

- سأكون أمًّا.. سأكون تحديدًا مثل أمي..سأصحو في الخامسة صباحًا.. أمرر يدي بطيبة على وجوه أولادي.. أمنحُ الأكبرَ قُبلةً على جبينه.. أعيدُ الغطاءَ على جسدِ الأصغر.. وأُعطي الأوسط حُضنًا صباحيًّا.. أعرفُ ما يسعدُ كلَّ واحدٍ منهم.. سأكونُ أرملةً.. لا أريدُ زوجًا يشاركني الأحضان والقبلات ولحظات الصباح المدهشة.. سأكونُ جميلةً.. جمالًا يليقُ بالأمهات الطيبات.. لكنني سأكبر.. ستأكلني السنوات.. ستبدأ يداي في الارتعاش عندما أغادر أرض الأربعين.. ستنقطع الدورة الشهرية.. سأتوجع وحيدة في فراشي.. سيتركني أطفالي بعد أن يُصبحوا رجالًا.. ستسرقهن مني زوجاتٌ.. سَيَكُنَّ قبيحاتٍ بالطبعِ.. سأكونُ كما كانتْ تقولُ أُمي «ربي يا خايبة للغايبة».. سأموت صباحًا عندما أمرر يدي على أماكن النوم الباردة.. الخالية من أطفالي.. سأصبح غير صالحة للحياة.. سأموت.. لن أكون شبيهًا بأمي.. لا.. لا أريد أن أكون أمًّا.. أي أحلام قاتلة هذه.

مُنهكًا جدًا.. رائحة الكحول تشير إلى أنه كان غائبًا عن الوعي.. يشربُ كثيرًا في الليالي الباردة بحثًا عن الدفءِ.. يقول:
- «سأموت عندما يبرد قلبي.. والخمر تجعلني دافئًا.. تحتضن روحي.. تمسح قاذورات يومي.. تطبطب على ظهري.. توجعني أحيانًا.. لكنَّها تُريحني لياليَ كثيرةً.. الخمرُ صديقتي.. لا تقبض الأرواح.. لا تشبه فتاة الليل الباردة.. لن ترسل لي يومًا خطاب الإحالة إلى المعاش.. الموت الدائم.. لن ترتعش يدها في الأربعين.. أولادها لا يتركونها أبدًا.. الخمر.. تُعلم فاقد الشيء أن يعطيه.. الأغبياء فقط يسقطون في وحل السُكر.. أرواحهم تترنح.. تسقط.. تشعر بالغثيان.. تمسك بحواف قاعدة دورات المياه المعبقة بروائح النشادر والرجولة.. والأحلام المشوهة.. وتخرج العفن من أحشائها».

سيجارة ثالثة تركها تنساب من العلبة.. علقها في فمه بهدوء.. مرر عود ثقاب.. أشعله.. تأمل نيرانه – صفراء ممزوجة بحمرة دموية- ترتفع.. رأى نفسه في مركزها المشتعل.. كان وحيدًا.. سعيدًا.. دافئًا.. لم يظهر قابض الأرواح.. لم تخطُ أمُّه –يسبقها صوتها الهلع الخائف كالعادة - لتطفئ عود الثقاب.. تضربه برفقة على ظهر يديه.. لم تملْ فتاة ليل لتطفئ النار بـ«هواء بارد يخرج من فتحات تهويتها»..

لكنه لمح الموظف إياه في الخلفية.. يضحك ملء فمه.. يخرج لسانه.. حواجبه يجعلها ترقص بشكل داعر.. يمسك بيده اليسري خطاب إحالته للمعاش.. الخطاب لا تأكله النار.. الموت الكلمة الوحيدة اللامعة الثابتة المحفورة التي لمحها في ذيل الخطاب.. النار تقترب من إصبعيه.. تلسعه.. تحرقه.. يحاول أن يُخرج نفسًا ليطفئها.. لكنه كان ميتًا.. باردًا.. وحيدًا.. فاحتضنها بفرحةٍ قبل أن تلمسَ أصابعه أطراف خطابِ الخروجِ إلى الموت.. المعاش.
Advertisements
الجريدة الرسمية