رئيس التحرير
عصام كامل

ولدت بين جدرانها قصة حبه لـ«الست».. فيلا أحمد رامي «مقلب قمامة» مهددة بالهدم

فيتو

عند مدخل شارع نبيل السباعي بحي حدائق القبة في القاهرة، يسير الصديقان السبعينيان بمحاذاة سور البيت ذي التراث العتيق المتهدمة واجهته تماما من جهة اليسار، نظرة جانبية سريعة إلى ما آل إليه حال البيت، يعقبها إيماءة بالرأس وتعجب من تقلبات الزمن، فهذا المنزل الذي كان يعج بكافة مظاهر الحياة والبهجة والطرب الأصيل، تقوضت جدرانه وعمه الخراب وكسته الأتربة وخيوط العنكبوت، حتى بات مأوى للحيوانات الضالة وأكوام القمامة التي يلقيها سكان العقارات المجاورة.



إنه منزل الشاعر الكبير الراحل أحمد رامي، ذي الجذور التركية والملامح المصرية، فهو حفيد الأميرلاي التركي "حسين الكربتلي"، وصاحب الديوان الشهير "رباعيات الخيام"، فضلا عن تأليفه لعشرات الأغاني لكوكب الشرق أم كلثوم.


"جرجس" السبعيني صاحب ورشة "النجارة" التي تبعد عن المنزل خطوات قليلة، ما زال كلما مر بشكل يومي بعد الانتهاء من عمله متجها إلى منزله، يقف رفقة صديق عمره يتحسران ويندبان حال المنزل: " من نحو خمسين سنة البيت ده كان ساكن في الدور الثاني منه الشاعر أحمد رامي، كنت بشوفه وهو نازل كل يوم يشتري الخضار بالجلابية والطاقية، كان رجلا محترما ومتواضعا. مكنتش وقتها أوعى ساعتها للأغاني، لكن أعرف أم كلثوم".

أربعة عشر عاما كانت عمر جرجس حينما تعرف للمرة الأولى على الجار أحمد رامي من خلال الأب الذي كان يصطحبه في الورشة لتعليمه المهنة، فيلتقيان بالشاعر الكبير في الطريق، يخبره والده بأن هذا الشخص هو كاتب أغنيات "الست أم كلثوم": " من ساعة ما وعيت لروحي وأحمد رامي كان ساكن هنا، البيت عتيق وأساسه قوي لكن أصحاب البيت عايزين يهدوه عرفنا إنهم وضعوا مواد معينة على الواجهة علشان تقع ويقولوا إنه آيل للسقوط ويتهد، هناك قضية في المحكمة بخصوص المنزل، لأنه فيلا مش عقار ومحظور هدمها، حرام بعد ما كانت أم كلثوم وكبار الملحنين يوميا فيها، تصبح بالشكل ده!".



كاد المنزل ينطق مفصحا عما يحويه بين جنباته من حكايات وليال طويلة قضاها رامي ساهرا في شرفته أو خلف مكتبه، يطلق العنان لقلبه الذي لا يكذبه في حب "الست ثوما"، هناك وخلف تلك الجدران المتهالكة، أفصح رامي عن حبه للست، والذي أخفاه طويلا من خلال ورقة تحمل كلمات الأغنية الأقرب إلى قلبه، "حيرت قلبي معاك.. وأنا بداري وأخبي"، شاهد دموعه التي يسكبها بينما يمسك بقلمه ويخط الجملة الأولى للحن الجديد، فهو من قال في أحد حواراته الصحفية "كنت أبكي وأنا أكتب أغانيها"، خلف الجدران ذاتها مازالت بقايا قصة حبه تنبض بالحياة.


110 أغان منها "هجرتك" و"جددت حبك ليه"، "سهران لوحدي"، "يا طول عذابي"، و"عودت عيني على رؤياك"، في شرفة الطابق الثاني جلست أم كلثوم بالساعات تستعد للأغنية الجديدة.


"أنا شفت أم كلثوم هنا كانت في آخر أيامها في زيارة لأحمد رامي، كانت كبرت وانحنى ظهرها، لكن كانت لسه الست اللي توقف الشارع على رجل، مكنتش شوفتها من يوم ما حضرت لها حفلة في السويس مع زوجي من نحو ستين سنة!"، بهذه الكلمات تبدأ "السيدة فريدة" 80 عاما، والتي تقطن الشارع في منزل الزوجية منذ أكثر من خمسين عاما، ما زالت ذاكرتها تحتفظ بملامح زوجة رامي وهيئتها، بالكاد تذكرت اسم السيدة عطيات زوجة الراحل: "كانت بيضاء طول بعرض، جميلة جدا لسه فاكرة شكلها"، تتذكر أيضا الابن والأب والعائلة الهادئة التي لم تختلط بأحد من الجيران طوال فترة بقائها في الشارع حتى رحيل رامي في مطلع يونيو عام 1981 :"مكنش ليهم اختلاط بحد ناس في حالها وفي منتهى الهدوء، عرفنا إن البيت هيقع وأصحابه هيهدوه، منذ سنوات وهو على هذا الحال".


المنزل لم يكن ملكا خالصا لرامي، فقد استأجره من مالكه الأصلي مع مستأجرين آخرين قطنوا الطابق الأول حتى بداية تسعينيات القرن الماضي ثم هاجروا خارج البلاد دون عودة، ليحل محلهم أسرة صعيدية تعمل في تجارة الخردة والحديد، اتخذت المدخل وشقة الطابق السفلى مقرا لتخزين البضاعة، وفقا لما قاله "هشام" حارس الفيلا منذ عام 1998 :"أنا جيت من عشرين سنة بالضبط من بيتي في الفيوم اشتغل، مسكوني فيلا قالوا أحمد رامي كان ساكن فيها، من يومها وهي خرابة كده السكان بيرموا فيها الزبالة والمخلفات لحد ما بقت بالأكوام، والسبب كان سكان تجار روبابيكيا سكنوا شقة أحمد رامي بهدلوها، حتى اشتراها مالكها الحالي السيد وجدي عزيز".


تهاوت درجات السلم المؤدي إلى الطابق الأول، طوقت أكوام القمامة الجهة اليسرى للمنزل وغطتها بشكل كامل، بقيت وحدها ذكريات رامي وما خطته يده من روائع شدت بها "الست" فوق خشبة المسرح باقية في صدور الصغار قبل الكبار من أبناء الشارع، يقول هشام :"كل الناس هنا عارفة إن أحمد رامي كاتب أغنيات أم كلثوم كان ساكن في الشارع".
الجريدة الرسمية