رئيس التحرير
عصام كامل

«الحياة تبدأ أحيانا بعد الستين».. عزة وسونيا تستعيدان أيام الشباب بـ«رحلة على البسكلتة»

فيتو

الثامنة صباحا، شمس مايو الساطعة على استحياء تختبئ خلف الأشجار الكثيفة التي تكسو ميدان "مصطفى كامل" بحي المعادي، الهدوء الذي تكسره زقزقة العصافير بين الحين والآخر، مصطحبة معها ضحكات نسائية متقطعة، آتية من ناحية شارع دجلة في جهة يسار الميدان، حيث تقبل "عزة محمد" 64 عاما في جلبابها الأسود، و"سونيا"  62 عاما في زيها الرمادي الثابت، ممسكتين بدراجتيهما الهوائيتين استعدادا ليوم رياضي شاق وجدول أعمال مزدحم، رافعات شعار "الشباب يبدأ بعد الستين!".  



في السابعة من صباح كل يوم جمعة، اعتادت سونيا التي تعمل طبيبة أمراض نساء وتوليد منذ نحو أربعين عاما، أن تستيقظ على طرقة صديقتها "عزة محمد" المحامية السابقة بمركز البحوث القانونية بالقاهرة، تخبرها أنها على أهبة الاستعداد لشحذ الهمة نحو مخزن الدراجات الهوائية، القابع أسفل منزل سونيا في شارع دجلة بالمعادي: "أكثر من شهرين وإحنا على الحال ده كل يوم جمعة أصحيها وأنزلها تحضر العجلتين، ونتجه ناحية ميدان مصطفى كامل". 


الميدان يبدو خاليا إلا من عجوزين تجاوزتا الستين ربيعا، قررتا أن تَستعيدا ما سلف من أيام "العز والشباب"، بحرفية فتاة عشرينية، تلملم عزة ذيل جلبابها الأسود، وتقفز قفزة واحدة فوق الدراجة ثم تنطلق لأكثر من ساعة، وهو الموعد المحدد يوميا لقيادة الدراجة قبل الاستراحة، "عزة الوحيدة من ضمن السيدات اللي دعيتهم يركبوا عجل معايا الصبح ويجددوا نشاطهم، كانت متمكنة من ركوب العجلة وحافظت على توازنها"، تتحدث سونيا التي أصبحت المسئول الرسمي لهذا الطقس اليومي، كونها المالك الأصلي للدراجتين، ومن عززت الفكرة في رأس عزة، بعد أن تقاعدت الثانية عن العمل، وشعرت بجسدها كاد أن يثقل ويمرض بعد شهر فقط من البقاء في المنزل، فكان اقتراح صديقة أختها رفيقة أوقات ممارسة الرياضات المفضلة "سونيا"، أن تداوم على ركوب الدراجة مرة في الأسبوع.  


قبل نحو 35 عاما، كان اللقاء الأول بين عزة وسونيا، الذي انقطع لاثنين وثلاثين عاما، ليتصل من جديد بعد "المعاش"، تقول عزة: "أنا أعرف سونيا من زمان لما كانت بتروح مع أختي الكلية، هما الاثنين طبيبات أمراض نساء وتوليد، كانت معرفتنا سطحية للغاية، قبل أن تصفى الدنيا من حولي عليها!".

ومنذ نحو أربعة أعوام جمعتهما الصدفة مرة أخرى أمام حمام سباحة نادي المعادي، لتجددا العهد القديم، لكن هذه المرة مع توطيد أكثر للصلة ومشاركة تفاصيل حياتية دقيقة جدا.  


أيام السبت والإثنين والأربعاء، هي المواعيد المخصصة الثابتة لممارسة "عزة" رياضة السباحة التي داومت عليها منذ كانت في الخامسة من عمرها، ثم انقطعت عنها بعد زواجها من مهندس يعمل في إحدى شركات المقاولات بدولة السعودية، فانشغلت عنها بتربية الأبناء وهموم العائلة التي لا تنتهي، لكنها ما إن زوجت جميع الأبناء وقبل نحو خمس سنوات، قررت العودة من جديد إلى ما تركته في زمن طفولتها، "أنا كنت زمان بلعب كرة طائرة وسباحة وبركب دراجات في شارع بيت العائلة في حلوان لحد ما دخلت الجامعة، الزواج منعني من كل ده، لكن بفضل تشجيع سونيا، رجعت لركوب العجلة ومهتمش أن سني كبر أو عجزت، أنا كمان ما زلت بمارس السباحة خلال الثلاثة أيام نصف ساعة، ودائما أحرص على تعليم فتيات النادي السباحة بشكل دوري".  


أما الطبيبة سونيا، التي ما زالت تحمل خلف نظارتها السوداء وبين نبرات صوتها الحانية، بقية من الزمن الكلاسيكي الجميل، كأنها تجمدت في عصر غير عصرنا، وباتت تمارس حياتها على هذا الأساس، فمنذ مطلع الثمانينيات أخرجت سونيا الدراجات القديمة التي كانت تذهب بها إلى المدرسة برفقة أختها الكبرى، من مخزن المنزل، أعادت إصلاح التالف منها وأحضرت أربع سيدات من سكان الحي، شجعتهما على ضرورة العودة لزمن الدراجات من جديد، "كنت بصطحبهم لشراء احتياجات المنزل وزيارة أصحابهن بالعجلة، مافيش مشوار بعمله بالمواصلات، حتى عيادتي في عرب المعادي أحيانا بروحها بالعجلة".
 
لكن الأمر لم يفلح حتى النهاية، فمنذ عدة سنوات انفصلت عن تلك السيدات، وباتت تخرج إلى شوارع المعادي بالدراجة وحدها، حتى ألقت الأقدار بعزة في طريقها، "مبقاش لي غيرها رفيقة على الحلوة والمرة".  


لم تسلم عزة وصديقتها سونيا من تعليقات بعض المواطنين حينما تنطلقان بالدراجتين ناحية محطة مترو الأنفاق، عبارات لاذعة على شاكلة "إيه يا حاجة روحي اطبخي أحسن لك"، أو "إيه يا تيتة ده لسه فيكي نفس؟!"، وغيرها من الكلمات التي تستمع إليها عزة من أذن لتطلقها في الريح من الأذن الأخرى قائلة "ربنا خلقنا بفم واحد وأذنين علشان نسمع بواحدة ونفوت الكلام بالأخرى".

أما سونيا صاحبة المزاج الأرستقراطي الأصيل، ما زالت تذكر المرة الأولى التي خرجت فيها إلى عيادتها بالدراجة ليُوقفها أحدهم في عرض الشارع قائلا: "احترمي نفسك وروحي على بيتك يا حاجة". 

الجريدة الرسمية