رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

خمورجي يروي التاريخ.. الفرار من أسر محمود عبد الدايم


فصيح القول يأتي بالعجائب فيفوق الجن في غرائبهم، ويصير حديثه سحرًا يأسر العقل قبل القلب، فلا يستطيع المرء الفكاك من أسره إلا بعد شدة على النفس.


ولا مبالغة حين أقول إن محمود عبد الدايم من هذا الصنف من الأدباء تقرأ قصصه القصيرة فيهرع قلبك وعقلك وراء الكلمات، ثم تغرق جوارحك في يم الحبر، ولا مخرج لك إلا بعد انتهاء الصفحات.

ويا ليت أثر السحر يتوقف بعد القراءة ولكنه يمتد فيطغى على حياتك فترى الأشياء بعين ابن الصعيد الساخر المهاجر رغم أنفه من الجنوب ليعيش في عاصمة لا يبصر منها إلا المهمشين والضائعين وملح الأرض، حتى لو خالف ذلك قناعاتك التي كنت تظن أنك لا تحيد عنها ولو بالموت.

ولأن الموهبة سلطانٌ على عقل الكاتب يأمر يده بكتابة ما تشاء، فلقد حملت مجموعة الخال عبد الدايم عنوان «خمورجي يروي التاريخ»، معبرًا عن بديهة واضحة وهي أنه لا أحد يذكر الحقيقة إلا بعد غياب العقل، وهكذا كانت مذكرات سعد زغلول، ولا أعلم هل «أبو هنا» يعرف ذلك الأمر أم لا، إن سعد السكير كان مختلفًا تمامًا عن سعد الواعي؟!.. ولكنها الموهبة.

يستعير عبد الدايم عين صانع ساعات سويسري ليرى تفاصيل التفاصيل، يصفها بدقة مذهلة لتشكل في النهاية صورة واضحة شديدة التماسك، وهذا ليس جديدا ففحول الأدباء سبقوه إلى ذلك، ولكن العجيب أن هذه اللوحة الأدبية تعكس مشهدًا تقع عيناك عليه ليل نهار ولكنك لا تراه، وحين يدركه عقلك، لن تبصره إلا بعين الكاتب.

شخوص عبد الدايم دائمًا مهمشون لا تراهم أبدا وسط الكادر بل ربما غابوا عنه، ولو من عليهم بالظهور فهم "كومبارس" لا يصلحون لدور البطولة، ليس فقط بسبب الكونياك الذي تدور كؤوسه في غالب الصفحات، ولكن لأن الحياة لا تحن عليهم ولن تفعل.

أماكن عبد الدايم هي في الغالب خمارات الهاربين الذين لفظهم إخوانهم في الآدمية، فزاوجوا كؤوس المدام، أو هي شوارع متسعة في مساحتها ضيقة في مشاعرها، يرى الكاتب فيها منمنمات إنسانية لا تتوقف عندها إلا عين أديب مقهور.

المرأة عند عبد الدايم هي عشيقة لم يصل إليها حبيبها أو غانية رخيصة تتسول بجسدها، وبذلك تناسى عن عمد المرأة العادية التي نراها في كل زمان ومكان، وكأنها ليس لها من المشاعر نصيب.

الأم عند عبد الدايم هي محور الكون هي البداية والنهاية، ليس لأنه «ابن أمه» ولكنها قريته البعيدة التي تركها مجبرًا بسبب موهبته التي حرمته دفء أسرته وشمس بلدته وقمرا رأته عين والدته في ليالٍ خلت من الغيوم.

أما «هنا» فليست ابنة عبد الدايم، بل هي أمه التي يعشق تراب قدميها، وملهمته الكتابة، وصبره على غربة جسد وروح لم يكن يومًا يتمناها.

أزمنة عبد الدايم هي في الغالب «الليل وآخره»، أما النهار فيكون بحضور «هنا» ذاهبة أو قادمة من المدرسة، وكأنها النور الوحيد في حياته وحياة أبطاله الغارقين في بحر الظلمات.

الاكتئاب هو السمة الغالبة على كلمات عبد الدايم وكذا حياته حتى لو ظلت البسمة لا تفارق وجهه، ولا أنصح المكتئبين بقراءة قصصه القصيرة، لأنها ستزيد عزلتهم ووحشتهم، حتى لو قال إنها غير ذلك، فالعبرة ليست بالقول بل الواقع يؤكد عكس ذلك، وهذه النصيحة لها سببها الوجيه وهو أن كلمات عبد الدايم ستأسر عقلك وتزرع داخله أفكار الكاتب فلن تستطيع منها فرارًا.
Advertisements
الجريدة الرسمية