رئيس التحرير
عصام كامل

مصر التي تفتش في دفاترها القديمة


تبدو مصر في زمن الرئيس السيسي مثل رجل ضاقت به سبل العيش فراح يفتش في دفاتره القديمة، لعله يجد أصولا وممتلكات قابلة لإعادة استغلالها واستثمارها ويوقف حنفية الإنفاق المنفلت والبذخ بلا ضابط أو رابط أو حساب أو رقيب.


يحدث هذا بعد أن أصبحت كل الهيئات والشركات الحكومية المملوكة للدولة بخسائرها المتواصلة والمتراكمة بالمليارات "عالة" على الدولة، ومنها السكك الحديدية والمستشفيات والمؤسسات الصحفية وماسبيرو وغيرها، وصار البحث عن حلول لإيقاف نزيف تلك الخسائر حتميًا في ظل عدم وجود إنتاج حقيقي وغياب العامل المنتج الذي كانت تنشده "اشتراكية عبد الناصر" في الستينيات، فقد وجدت الدولة نفسها أمام استحقاقات مالية شهرية بالمليارات لجيوش من الموظفين الذين لا يعملون ولا ينتجون، ومؤسسات أصابها الترهل و"التكلس" ولا تعرف ثقافة الربحية على الإطلاق.

لكن مصر السيسي -وهي تلجأ للتقشف ولتوجيه بنود في ميزانيتها لبنود أخرى تحظى بأولوية- لم تحذو حذو الرئيس السادات في الخصخصة الفاضحة بتسليم مقدرات البلد "تسليم مفتاح" لرجال الأعمال، وإنما لجأت لاستحداث مجموعة قرارات وقوانين ستسلم بموجبها مسئولية إدارة كل مؤسساتها الخاسرة إلى هيئات اقتصادية تنقلها من الخسارة إلى الربحية حتى لو بعد عشرات السنين.

أحد تلك القوانين، قانون يسمح بإشراك القطاع الخاص في إدارة مرفق السكة الحديد، بعد أن بلغت خسائره التراكمية 50 مليار جنيه وخسائره السنوية 6 مليارات جنيه بما يسمح باسترداد أراضي الهيئة التي يتم التعدي عليها تمهيدًا لاستغلالها وإعادة استثمارها، كما يجرى أيضًا تعديل قانون السفر الذي يفرض غرامات تتفاوت ما بين الغرامات والحبس لكل راكب يعبث بالأجهزة والأدوات المستخدمة في القطارات أو إتلاف أي من ممتلكات السكة الحديد، أو الركوب في درجة غير الدرجة التي يتم الحجز فيها، أو التهرب من دفع التذاكر.

أيضًا استحدثت الدولة قانونًا جديدًا للتأمين الصحى بعد أن وصلت المستشفيات الحكومية إلى حالة من التردي والإهمال غير المسبوق، بحيث ستدعم المرضى المحتاجين فقط، وتقوم فلسفته على أساس فصل التمويل عن تقديم الخدمة، ولكى تتحسن الخدمة العلاجية بعيدًا عن الشعارات، لم تخجل الدولة من أن تلجأ لمصادر تمويل جديدة من المدخنين وأصحاب المركبات على الطرق السريعة، وممن يستخرجون أو يجددون رخصة القيادة ومن العيادات الطبية ومراكز العلاج والصيدليات وشركات الأدوية والأغذية والمقاولات ومن عائد مبيعات الأسمنت والحديد والبتروكيماويات والأسمدة والكيماويات والرخام والبورسلين والجرانيت، كما أنشأت 3 هيئات جديدة تتولى إدارة المنظومة الصحية.

هناك أيضًا قانون التصالح في مخالفات البناء بما فيها الأراضي الزراعية الذي يناقشه البرلمان تحت شعار براجماتي ينتصر لفكرة الدولة الرخوة لا لدولة القانون، وهو أن المخالفات قد وقعت ولن تستفيد الدولة من حبس المخالفين، لكنها ستستفيد من الغرامات التي ستفرضها عليهم والتي تصل في إجماليها إلى نحو 100 مليار جنيه، وهو نفس الشعار الذي انتهجته في التعامل مع لصوص نظام مبارك.

أيضًا قرار تشكيل لجنة لحصر أراضي الدولة التي تم الاستيلاء عليها دون وجه حق، وتم بموجبه استرداد آلاف الأفدنة المنهوبة، مما سيجلب أموالا طائلة تكفى لسد العجز في الموازنة والمقدر بــ 250 مليار جنيه، إضافة إلى سداد ديون مصر الخارجية، وذلك بعد طرحها في مزادات علنية، بالإضافة إلى الاستفادة من تلك المساحات من خلال زراعتها أو إقامة مشاريع إسكان للشباب عليها.

المؤسسات الصحفية الحكومية الستة يجرى أيضًا إعادة هيكلتها، بحيث يتوقف نزيف الخسائر المتواصل في ظل تدنى أرقام التوزيع إلى مستويات مخزية وغير مسبوقة، وتعتزم مؤسسة الأهرام مثلا التحول إلى شركة قابضة تطرح ٢٥٪ من أسهمها في البورصة، وكذلك مبنى التليفزيون الذي يضم 50 ألف موظف ويمكن أن يدار بكفاءة بـــ 5 آلاف موظف وتبلغ خسائره السنوية 6 مليارات جنيه.

نادي الرماية التابع للقوات المسلحة الذي يشغل مساحة كبيرة تقدر بـ 114 فدانًا وغير مستغلة وتعوق تطوير المنطقة الواقعة بين المتحف المصرى الكبير والأهرامات، سيتم إزالته وإنشاء 3 فنادق عالمية ومجمع سينمات وأكبر صالة للتزلج على الجليد ومولات للتسوق مكانه، بعد أن وقعت القوات المسلحة عقدا مع شركة أوراسكوم للبدء في المشروع خلال العام الجديد 2018، وهى خطوة رائعة تتفق مع توجه الدولة لإعادة تشغيل الأصول غير المستغلة.

ليست خطيئة عبد الناصر أنه أسس نظامًا اشتراكيًا يقوم على أن يكرس المواطن كل وقته وجهده للإنتاج ويتفانى في العمل، مقابل أن توفر له الدولة راتبًا وسكنًا وتعليمًا مجانيًا ومستشفيات آدمية يتلقى علاجه فيها هو وأسرته، الفكرة كانت نبيلة، لكنها أفضت إلى ما نحن فيه ونعانى منه الآن، مواطنون لا يعملون ولا ينتجون، ودولة فشلت في توفير المسكن والراتب والتعليم والعلاج الكريم لمواطنيها، وقد لخص الرئيس السيسي المأساة عندما قال في إحدى خطبه إن مصر بها 7 ملايين عامل حكومي، تستطيع الدولة أن تستغنى عن 6 ملايين منهم دون أن تتأثر كفاءة العمل في الجهاز الحكومي، لكنه لن يستطيع تغيير أوضاع استقرت منذ سنوات طويلة، أو إنهاء خدمات موظفين يعولون أسرهم ويفتحون بيوتهم من راتب الحكومة.
الجريدة الرسمية