رئيس التحرير
عصام كامل

6 ساعات في المرور


ما حدث معى في مرور حدائق الهرم يثبت أن من ليس له واسطة في هذا البلد "ينداس تحت الرجلين"، ومن معه واسطة يحصل على الحصانة وينضم لزمرة المحظيين وينجز مصالحه سريعا دون معاناة أو طوابير أو زحام. عند افتتاحه في ديسمبر 2014 لمست من جيرانى وأصدقائى مدى انبهارهم وإعجابهم بالنظام فيه، شاشات للنداء الآلى بأرقام العملاء على طريقة البنوك والمؤسسات العالمية، وكاميرات تراقب الموظفين وتمنع الرشاوى، وأجهزة تكييف حديثة تحمى المواطنين والمتعاملين من حرارة الصيف، وانضباط غير مسبوق في أي مؤسسة أو منشأة حكومية في مصر.


لكن حالة التردى والتراجع التي وصل إليها الآن، تترجم التنازع والصراع بين أقلية تحب بلدها وتخطط لأن تكون دولة عصرية متحضرة، وأكثرية تمثل الدولة العميقة وتريد بقاء حالة الفوضى والفساد على ما هى عليه، لأن النظام والانضباط وتطبيق القانون بصرامة سيقضى على مكتسباتهم ومصالحهم الخاصة التي يحققونها كل يوم.

وبكل أسف حالته الآن هي أكبر دليل على أن هناك قوة خفية تتعمد هدم وتدمير كل شيء جميل وواعد يمكن أن يتحقق في مصر، فبعد أن توافرت فيه عند إنشائه كل عوامل التحضر والرقي، وبدأ بنظام عصري يمنع الرشاوي والزحام ويحترم آدمية البشر على الطريقة الأوروبية، للأسف عاد الشيء لأصله، النظام الرقمي المتحضر تم تدميره، وكاميرات المراقبة والتكييفات تعطلت، وتجدد الإهمال والفوضى والزحام والمحسوبية.

الخميس الماضى ذهبت إلى هناك كمتعامل لأول مرة لتجديد رخصة سيارتى التي أوشكت على الانتهاء، وقررت إنهاء إجراءاتى كأى مواطن دون أن أُميز نفسى عن غيرى من المواطنين، ودون أن أطلب واسطة لتسهيل المهمة خصوصا أن من يدخل إدارات المرور بمصر مفقود وخارجها مولود، ويستحيل إنجاز إجراءات تجديد رخصة السيارة بها في يوم واحد بسبب الزحام والبهدلة والطوابير الطويلة وسوء المعاملة، إلا من رحم ربى أو دفع المعلوم.

ورغم أننى كنت أول شخص يأتى بسيارته للفحص، وأول من يحصل على شهادة من نيابة المرور بسداد المخالفات، حتى أننى أنجزت المهمتين في ساعة واحدة من الثامنة إلى التاسعة، إلا أننى فوجئت في المرحلة الثالثة والأخيرة وهى استخراج الرخصة بأن رقمى 219، وكانت شاشة النداء الآلى تشير إلى أن الدور على رقم 150، أي أننى سأنتظر 70 شخصا قبلى، أذهلنى الرقم وتساءلت كيف دخل قبلى 218 شخصا وحصلوا على أرقام.

حاولت أن أقنع نفسى بأن كثرة الشبابيك، وغياب كثير من أصحاب الأرقام -كما يحدث عادة في البنوك - ستقصر مدة الانتظار، وانتظرت من التاسعة إلى الحادية عشر والنصف كان الإنجاز يسير ببطء السلحفاة "20 عميلا فقط خلال 150 دقيقة"، كانت الصالة خلالها أشبه بـ "سوق عكاظ" أو "سويقة الخميس"، زحام وصخب وزعيق وصياح وخناقات ومشادات، والأسوأ هو تكالب العشرات على كل شباك وليس صاحب الرقم الذي ينادى عليه فقط، بينما هناك 13 شباكا من إجمالى 25 مغلقا ولا تعمل وليس بها موظفون.

وقفت بالقرب من الشبابيك لأعرف سر هذا البطء، فاكتشفت أننى واهم لأننى صدقت خدعة أن هناك نظاما وأرقاما ودورا وتحضرا، فمع كل رقم يتم إنجازه كان هناك شحصان أو ثلاثة من المحاسيب بلا أرقام ينجزون أوراقهم ويحصلون على الرخصة.

عندئذ قررت -بناء على نصيحة أحد الأشخاص في الصالة- الدخول لأحد كبار المسئولين بالمرور وشكوت له من أننى بهذه الطريقة لن يدركنى الدور، رغم كونى أول شخص يدخل إلى المرور، وأبلغته أن هناك شيئا ما خطأ في النظام، تكرم المسئول الخلوق مشكورا بمنحى تأشيرة على رقمى الذي كان من المستحيل أن يأتى عليه الدور، لتنقلنى التأشيرة السحرية من زمرة الغلابة المطحونين الذين لا يهتم بهم أحد إلى واحة المحظوظين المحظيين المحاسيب، تجاوزت الزحام الخانق والصخب والمشاحنات والخناقات والمشادات في صالة العملاء، ودخلت إلى الغرف الخلفية معززا مكرما بسحر ومفعول التأشيرة، لأحصل على الحصانة والمعاملة الراقية وأجد من يحملونى على "كفوف الراحة" ويطلبون لى مشروبا، ويتسلمون منى الملف ويسلمونى الرخصة وأنا جالس خلال أقل من ساعة.

خرجت من غرفة المحاسيب ومعى الرخصة الجديدة عند الساعة الثانية عشرة والنصف وكانت شاشة النداء الآلى في الصالة أو "سويقة الخميس" تشير إلى أن رقمى سوف يأتى عليه الدور "في المنام" أو في "المشمش" أو بعد انتهاء دوام الموظفين في الواحدة ظهرا بكثير "الخميس نصف يوم"، ووفقا لمعطيات الموقف كان من المستحيل- إذا انتظرت دوري كمواطن محترم ولم ألجأ للواسطة – أن أحصل على الرخصة، فقد وجدت نفسى مواطنا مهمشا عندما احترمت النظام، ومحمولا على "كفوف الراحة" عندما لجأت للمحسوبية.

أقر وأشهد أن أحدا لم يطلب منى رشوة في مرور حدائق الهرم على غرار ما يحدث في كل إدارات المرور بمصر، لكن أحدا أيضا لم يرفضها إذا تطوعت وعرضتها، وأقر أيضا أننى لم أر هناك "الولد المخلصاتى" أو "الواد محروس بتاع مرور فيصل" الذي يحصل منك على المعلوم وينجز لك في دقائق وكنت قد كتبت عنه مقالا عند تجديد الرخصة قبل 3 سنوات.

لكن السؤال الذي أطرحه واستفزنى لكتابة هذا المقال، متى سيشعر المواطنون المنضبطون ومن يحترمون النظام والقانون بآدميتهم في هذا البلد.. يبدو أن بلدنا كتب عليها أن تظل دولة اللانظام أو اللاقانون إلى أبد الآبدين، ويا خسارة كل إنجاز جميل يتحقق فيكِ يا مصر.
الجريدة الرسمية