رئيس التحرير
عصام كامل

شهداء الصمت في الواحات


ساعات عصيبة تمضى على المصري، عندما يكون الوطن في محنة، وهو بعيد عنه أربعة آلاف كيلومتر، بالتحديد كنت مع زملاء في العاصمة الغانية أكرا، عندما تنامى إلى مسامعنا "طراطيش" سوشيال ميديا حول فجيعة الواحات، حاولت التواصل مع مصادر رسمية غابت في "عز" الأزمة، المصريون هناك تجمعوا، تساءلوا، بحثوا في كل القنوات المصرية، بحثوا عن بيان شاف صادر من جهة رسمية دون جدوى.


المصرى خارج وطنه مساحة من القلق تتحرك عندما تهزه معلومات غير موثقة، يبحث سريعا عن جواب وافٍ، يتصل بأهله، يتواصل مع أقرانه هناك، تستطيع أن ترى الوطن متجسدا في هذا العبوس الساكن في الوجوه، يفقد الإحساس بمحيطه، بعمله، بكل تفاصيل حياته، وينتقل روحا وعقلا وجسدا إلى العاصمة الأبية، إلى القاهرة.. يتحسس الحقيقة التي لا تأتيه أبدا كي تشفى غليله وخوفه على بلاده.

ما حدث فجيعة غابت عنها روح إدارة الأزمة، لم نر مصدرا يخرج على الجماهير "ليكنس" هذا الهراء الصادر على شبكات التواصل الاجتماعى، تركونا نهبا ونهشا لما يقال دون وازع من إحساس بحجم مايحدث، غليان، ضوضاء، بحر من أمواج التخبط الهادرة، ليلنا هناك مضى وكأنه ألف ليلة، لم نذق طعم النوم، حجم ماينشر كارثى، طبيعة ماينشر خبيث، فعندما تغيب المعلومة تتربع آفات الكذب فوق المشهد.

البيان الصادر أخيرا لم يتضمن ردا واعيا حول ماقيل، تسريبات بعض الإعلاميين غير المهنيين زادت الطين بلة، حجم ما تم اصطناعه على مواقع التواصل الاجتماعى كان أكبر من أن يرد عليه بيان مقتضب لا يقدم ولا يؤخر، للمرة الألف نُترك هكذا نهبا لعدو غاشم، صيدا سهلا لقوى الشر والطغيان، أصوات الاستغاثات المصطنعة توحي بما لا يجب أن نصدقه، أبناؤنا الذين وقعوا تحت الحصار كما صورته أصوات تسربت إلينا كان مفجعا.

عدنا من حيث كنا ليلة السبت الماضى، قلبنا الصفحات، تجولنا بين القنوات، اتصلنا بمصادرنا، خرجت علينا أصوات لم يعترف أي منها بأن هناك خطأ.. بأن هناك عملية غير مدروسة جيدا أدت بنا وبأولادنا إلى ما لا يرضي ربا، ولاعبدا، حتى جاء قرار إحالة الملف إلى جهة النيابة للتحقيق وإظهار الحقيقة كاملة!!

أما الأسئلة المشروعة فما أكثرها: من خطط للعملية؟ ولماذا لم ينسق مع جهات أخرى؟ من هو صاحب قرار الاستمرار في المطاردة والتعمق في الصحراء رغم الصعوبات الفنية في التواصل مع الجهات المركزية؟ لماذا لم يطلب عونا قبل أن تنقطع شبكات المحمول؟ لماذا لم يكن بحوزة هذه المأمورية أجهزة اتصال بالقمر الصناعي إيرديوم؟ وإذا كانت مأمورية قتال لا تمتلك مثل هذه الأجهزة فمن يمتلكها إذن؟

الاعتراف بحجم الخطر بداية إصلاح أي خطأ، أما القول بأن أبناءنا ضحوا بأنفسهم لحماية المدنيين في عمليات كانت تجهز لها قوى الشر في المدن، فهو قول كارثي، فالهدف من أي معركة هو الانتصار، وما حدث لم يكن نصرا بل كان تضحية بهؤلاء الذين حملوا أرواحهم فوق أكفهم لينتصروا لا ليموتوا هكذا بلا ثمن، من حق أسر هؤلاء الشهداء أن يسألوا عن احترافية التخطيط، وعن حجم العون المعد لتلك المأمورية، وعن الغطاء الجوي وسبب تأخره، وعن إمكانيات الدولة الفنية في مقابل إمكانيات عصابات الإجرام والقتل.

من حق الشعب أن يطالب مسئوليه بضرورة حيازة أجهزته لكل التقنيات القادرة على هزيمة الإرهاب ودحره والقضاء عليه.. من حقنا أن نرى أبناءنا في كل مواقع الخطر يحظون بحماية كافية، بدءا من التخطيط ونهاية بما لديهم من إمكانيات فنية وتدريبية وقدرات قتالية وأجهزة قادرة على تحقيق النصر دون أن نفقد واحدا من هؤلاء الأبطال.

من حقنا أن نقرأ الحقيقة خالصة لله، بعد التحقيقات التي تعكف عليها النيابة العامة، من حقنا أن نعرف ماذا جرى لأبنائنا هناك؟! ومن حقنا أيضا أن نعرف سبب هذا التخبط؟! وسر تأخر التعاطى الإعلام الرسمى؟! ومن حقنا أن نعرف لماذا ترك الشعب نهبا للشائعات؟! ودور الإعلام الرسمي؟! وسر اختفاء المصادر الرسمية لمواجهة الخطر القادم من الإعلام الأجنبي الذي لا يلتزم بالتواصل مع المصادر الرسمية؟! ولماذا تأخر بث المعلومات حول ما جرى حتى لا نُترك لإعلام الخارج ينهش في استقرارنا، ويبث ما بث من معلومات مغلوطة!!

قبل هذا وذاك لابد أن نعرف كيف سنواجه قوى الشر إذا كانت بالفعل قد قامت بتصوير جريمتها وعرضتها على الناس، إن الحقيقة الكاملة هي بداية الطريق الصحيح لمعاقبة المقصر، واستبعاده عن مناطق القرار، خاصة وأن قصة التسريبات لا يمكن التعامل معها وفق أبجديات حسن النية.. التسريبات كان مقصودا منها بث روح الانهزامية والانكسار، وهو ما لم يتحقق بفضل التفاف الشعب حول أجهزته.
الجريدة الرسمية