رئيس التحرير
عصام كامل

محمود عبد الدايم يكتب: كوابيس الحُمى.. موعد مناسب لزيارات الخونة

محمود عبد الدايم
محمود عبد الدايم

كان سخيفًا.. بل أشد سخفا من المرات السابقة، ضربنى من الخلف، غضبى يتجاوز معدلاته الطبيعية عندما تأتى الضربة من ورائى.. خائن كان هذه المرة.. اعتدته يأتى من الأمام، يواجهنى، وأكون دائما أن الرابح.. لكنه هذه المرة أتقن فنون الحرب.. وجاء من ورائى مصطحبا مع الحُمى.

قائمة الخونة قاربت على الامتلاء، أمى.. ذهبت للقاء ربها، فامتد بهما اللقاء ولم تأت حتى الآن، أبى تركنى لجدتى – أم أمى- تتولى تربيتى وتهذيبي وتعويضى غياب المرأة التي ذهبت إلى هناك، أشقائى.. إخوة يوسف الذين اتفقوا مع أبى بأننى لا أصلح إلا للبقاء في حِجر الجدة.. الجدة هي الأخرى كانت خائنة، قبلت مهمة تربية الولد اليتيم لأنها ترى في عيونه العسلية الناعسة انعكاس صورة ابنتها الراحلة.. هكذا أنا موعود بالأحبة الخونة.

الصداع.. كان أقوى هذه المرة، ضرب الرأس من الخلف، في أيامنا الأولى سويا كنت أكتفى بتمرير يدى على مكان الألم، أتجاهله دقائق عدة، فيجمع أشيائه ويرحل مخلفا وراءه خسائر لا تستحق أن توضع في خانة "فادحة"، تزايدت دقائق تواجده في الأيام الأخيرة، يبدو أن تمريرة اليد المعروقة لم تعد كافية، بدأت أشق طريقى لـ"مسكنات الألم" التي أكرهها، لكن ضرباته الرتيبة الموجعة، جعلتنى أتقبلها، ما هي إلا أسابيع عدة، وأصبحت لا أطيق الوجع، الضربات تزايدت حدتها، المسكنات تراجعت خطوات عدة إلى الخلف.. ورفعت راية الاستسلام.. فهزمني الصداع.

زارتني أمي أخيرًا.. أخبرتها بالألم المستمر، حدثتها عن ساعات الليل المتأخرة التي أحصى دقائقها واحدة تلو الأخرى، بعدما أفشل في إغماض عينيّ، حدثتها عن الكوابيس المستمرة التي تلازمني، عن الأخبطوط الذي يجذبني إليه، أخبرتها أنه يحبنى، أذرعه الثمانية تحتضني ولا توجعني، عن السمكة الذهبية التي ترقد فوق رأسه ساكنة بلا حراك.. عن كل أنواع الأسماك التي تطاردني أنا وأخبطوطي الحنون، وسمكتي الصامتة.

كساحرة القصص الخيالية.. كانت أمي جالسة جواري، بلا عصا سحرية، أو نجوم تسقط من حولها، بلا هالة نور تحيط بها، لكنها أمي، فلا حاجة لنجوم تلمع، أو أنوار تتلألأ، يكفى أنها هنا، حدثتني عن أيامها الأخيرة، عن "وجع الرأس"، الذي انفرد بها طوال الأسابيع الماضية، عن كل الكوابيس التي تلاحقها.. رأيتها تبكى من الوجع.. انتحبت كثيرا، تهت في دموع أمي، أمسكت مؤخرة رأسي.. لكنني لم أبك.

التقطت أمى أنفاسها.. وبلا مقدمات تذكر، وضعت كلتا يديها على رأسي، لم تمس أصابع أمي منطقة الوجع، لم تنظر في عيني، لكنها قالت: وجعك يوجعنى.. تخلص من الألم يا بُنى.. وجعك يوجعنى.. وجعك يوجعنـــ... وجعك يوجعـ.. وجعك يوجـ.. وجعك.. يو.. وجعك

وجعك.. الكلمة الأخيرة التي أنهت بها أمي مقابلتنا الأخيرة، وذهبت.. العرق الغزير الذي ينزل من كل مسام جسدى، أكد لى أنها الحمى، تحاملت على نفسي، استندت على كل ما يمكن الاستناد عليه، لعلي أتمكن من الوقوف، لكننى فشلت، فعدت للغرق في بحر الحمى الذي ألقاني فيه "صداعي المزمن" لعل أمى تراجع نفسها، ويسمح ربها بموعد ثانى يجمعنا.. سأحدثها عن أبى.. إخوتى.. جدتى.. سأحدثها عن كل الأمور التي ستسعدها، لكننى لن أجعلها تنظر في عينى، حتى لا تعاودها أوجاع الصداع الخائن.

ربها.. لم يكن كريما معى، لم يتركها تأتى، ومن الممكن أنها هي التي لم تطلب أن تعود.. لا يهم، فأبى لا يزال يقف في الزاوية هناك، لمحته من قبل، لكن أمي كانت سيدة المشهد حينها، فتركته يكمل سيجارته الثالثة، يرسم بخيوط الدخان التي يطلقها من فمه طائرات ورقية، صور أشقائي.. لمحته يخط بدخانه صورة أمى، وأخيرا.. عندما بدأت ملامحي تتشكل في زفرة دخان أخيرة، نفضها بيديه، وركز نظرته على مكان ما اختاره ألقى فيه سيجارته المحترقة.. وضغط عليها بحذائه.

انسحاب أمي هذه المرة، منحه فرصة لأداء دور البطولة.. دنا مني قليلا.. توقف، صرخت فيه بعدما بدأت ملامحه تتضح لعيني المتعبة، طالبته ألا يتقدم خطوة تجاهي، بعدما رأيت جسده يسقط جزء تلو الآخر.. في خطوته الأولى.. أصابع يده اليمنى سقطت، الخطوة الثانية كانت ذراعه على وشك السقوط.. وسرعان ما ارتطمت بقوة وتدحرجت على الأرض بعيدا عن الأصابع التي سبقتها في التحرر من جسده.. يتقدم أبى خطوة.. فتتوالى أجزاء جسده في السقوط، عين أبى كادت أن تسقط.. سيصبح أبى أعمى لو سقط.. أفقت من غيبوبتي.. بل أجبرت روحي على النهوض.. حتى لا أكون ولدا سيئا ترك أبيه يتخبط في ظلمات العمى.

في لحظات الإفاقة تلك، أدركت أنها الثالثة صباحا.. تذكرتك.. وضعتي يدك على فمي، عندما حاولتي بدء حديث بيننا، هكذا أنت دائما، لا تقتنعين أن مرور صوتك يكفي لأن ترحل كل الأمور السيئة.. لكنني أزحت يدك بغضب، تحدثت إليكِ.. كلماتي خرجت بلا صوت.. ميتة كانت أحرفي.. يبدو وكأنها تسقط في بئر يوسف.. لكن لا مارة يعبرون بجواري ليدلوا بدلوهم، فيصعد صوتى إليك، بعد أن يشتروه بثمن بخس.. استعنت على كلماتي المختنقة تلك بالإشارة، حركت ذراعي الأيمن.. لم تفهمى.. بقيتى على صورتك الأولى.. ترفعين يدك تحاولين إسكاتى.. أزحت يدك مرة ثانية، يدى اليسرى دخلت أرض معركة "الكلام الميت"، لكننى لم أحرز أي نصر مبين، لا تزالين تحاولين اسكاتى، ولا أزال أصارع صمتى.. أخبرتك أننى استوحشك كثيرا.. كشفت لك رأسي.. تساقط خصلات شعرى.. لم أشعر بأى ألم، بهدوء لا يتطلبه الموقف أزلتُ طبقة الجلد التي تغطي جمجمتي.. أشرت لك على موضع ألمي.. لم تأخذك المفاجأة، بقيت صامتة.. كلما هممت أمسك أصابعك، تتلاشى، كررت محاولات التمسك بك، مرة تلو الأخرى.. لكنك كنت إحدى صور أبى التي رسمها بدخان سيجارته الأخيرة.. وأنا بغبائي ولهفتى جعلتك تتلاشين، لأعود غريقا في بحر "الحمى".
الجريدة الرسمية