رئيس التحرير
عصام كامل

دور الكنيسة القبطية كقوة ناعمة داعمة للدولة


في كتابه عن القوة الناعمة سطر جوزيف س ناي (مخطط الاستراتيجيات الأمريكية) دور الثقافة والدين كقــوة ناعمة لتدعيم أركان الإمبراطورية الأمريكية، ولعل استخدام أدوات الدين في هدم الاتحاد السوفيتي هو أكبر شاهد.. وإذا تطرقنا إلى أدوات القوة الناعمة الأخرى التي استخدمها الأمريكيون بناءً على توصيات جوزيف فهي الاقتصاد والتعليم في التأثير فى الشعوب الأخرى وهذه الأدوات تفتقدها الدولة المصرية في المرحلة الآنية طبقًا لمعايير التنافسية، لذا فإن الدين هو الاداة الأكثر فاعلية في هذا الوقت سواء من الأزهر الجامعة الإسلامية الأولى في العالم ومنبر الإسلام الوسطي أو الكنيسة الأرثوذكسية الأم التي تضرب جذورها في عمق التاريخ المسيحي.


مقالنا هذا عن مسئوليات الكنيسة القبطية نحو الوطن ونبدأ من ٢٠١١، حيث استطاع الشعب المصري العبور من فخ الحروب الطائفية في وقت انهيار الدولة ووجود مقومات ودفع لإشعال هذه الحروب وقد سطرت وثائق المخابرات الدولية إمكانية استخدام عراقة كنيسة الإسكندرية كواحدة من أقدم الكنائس عالميًا لتسويق انفصالها عن الدولة تحت مسمى دولة قبطية، ولكن سقطت المخططات أمام ضمير الحضارة الإنسانية المصرية وتمسكها بكيان الدولة المصرية ونبذ الشعب المصري للعنف ولا نغفل هنا مقولة البابا تواضروس.. وطن بلا كنائس أفضل من كنائس بلا وطن في تعبير واضح عن الانتماء الوطني للأقباط عبر التاريخ ولا نغفل مآسي انهيار كنائس الشرق الأوسط في ظل ظروف مشابهة بدءًا من الكنيسة الكلدانية في العراق إلى السريانية في سوريا، وهي كنائس عريقة ولكن لم تحظى بالإدارة الحكيمة وانغلقت على ذاتها ولم تتواصل مع المجتمع بحكمة أو تدرك تحديات المستقبل وقت اشتعال فتيل الثورات والحروب الأهلية.

الكنيسة السريانية الأرثوذكسية عريقة فهي ديانة العرق الأشوري الذي اشتق منه اسم سوريا وهو من أنقى الأعراق علميًا وقد واجهت الكنيسة انشقاق رهيب في تأييد النظام أو المعارضة بناءً على خلفية اضطهاد حزب البعث لهم والمعلومة الواقعية هي أن الثورة سببت هجرة أغلب السريان لوطنهم في ظل حرب تحولت من معارضة نظام إلى حرب طائفية، وقد اندفعت الكنيسة نحو مواقف سياسية متطرفة، وبالطبع فإن عرقيات أخرى مثل الأكراد اتخذت موقف موحد له أهداف سياسية فاستطاعت التمسك بأرضها بل المطالبة بدولة كردية منفصلة مع عدم احترام حقوق السريان الآشوريين والعرب في ذات الأرض تاريخيًا رغم ما أظهروه سابقًا من تفاهم..

ورغم تأييد جزء من السريان للنظام الذي يسوق حمايته للاقليات فقد تأسس كيان ما يسمى "المنظمة الآثورية الديمقراطية كأحد الأحزاب التي انخرطت في الجيش السوري الحر ضد النظام إلى جانب أحزاب آشورية أخرى مثل الحزب الآشوري الديمقراطي وحزب الخلاص الآشوري وغيرها التي حولت مسار الكنيسة السريانية من كيان وطني إلى حزب أقلية عرقية تحمل السلاح وللأسف هو موقف متطرف دفع ثمنه الآشوريين بالهجرة أو القتل في سوريا ونطرح تجربة سابقة هي نسخة طبق الأصل، وهي تجربة الكنيسة الكلدانية في العراق، حيث تصدر الحزب الآشوري المشهد بعد تولي السفير الأمريكي بول بريمر حاكمًا مدنيًا ٢٠٠٣ فأصبح الحزب له مواقفه التي سببت بشكل أو بآخر بالتمهيد لتفكك البنية الوطنية للعراق وسيطرة داعش على مفاصل الأمور مما تسبب في تحول الكنيسة الكلدانية إلى مزارات سياحية بعد هجرة شعبها إزاء الحرب الطائفية ولا نخفي الاتهامات التي وجهت لذات الحزب بخصوص اختلاسات المنح والمعونات الموجهة للكنيسة والعرق الآشوري.

أمام هذه التجارب الفاشلة مثلت الكنيسة القبطية نموذجا حكيما في استيعاب ظروف الثورة بالانفتاح على المجتمع بلا تطرف وبعقلانية ودون تأسيس أحزاب لأقلية دينية، كما فضلت انتمائها الوطني على عقيدتها الدينية من أجل الحفاظ على شعبها ووطنها مع الرفض الكامل لحمل السلاح أو الانصياع لمخططات التقسيم بل إن دورها الوطني في ثورة ٣٠ يونيو كان أكثر وضوحًا من كنائس أخرى فضلت مصالح شخصية وتحركت طبقًا لضغوط قوى دولية.

مع تخبط كنائس الشرق الأوسط وعدم وجود بوصلة أو رؤية يبرز دور الكنيسة الأم في العالم وهي القبطية نحو استيعابهم وتحييدهم بعيدًا عن صراعات سياسية والالتفات حول راية الوطن وليس حول المكاسب العرقية مع الاستشهاد بالتجربة المصرية الناجحة في العبور نحو الاستقرار الوطني.

ومن سوريا والعراق إلى إثيوبيا، حيث صنف الشعب الإثيوبي الأرثوذكسي كأكثر الشعوب تدينًا حسب الإحصائيات وحتى وقت قريب كان يخضع لسلطة الكنيسة الأرثوذكسية المصرية، لذا فإن استخدام الدين كقوة ناعمة أصبح هو الملاذ نحو تأمين منابع النيل استراتيجيًا.

الكنيسة الروسية هي كنيسة أرثوذكسية تكن كل احترام للكنيسة الأرثوذكسية الأم في مصر ولها من التأثير والقوة على مجريات الأمور ما يحقق مكاسب للدولة المصرية.

أن بناء إحداثيات القوة الناعمة للكنيسة القبطية لصالح بقاء الدولة المصرية لا تكمن فقط في إعداد أقباط المهجر وإنما في العمق الثقافي والروحي والجودة والتميز النوعي الثقافي لأقباط المهجر ومدى اندماجهم وتأثيرهم داخل مجتمعاتهم كعلماء ورجال أعمال ومثقفين وأعتقد أن رجل الشارع يدرك إسهامهم الوطني داخليًا في مجالات عدة، لذا فإن استثمار هذه الطاقة إيجابيًا داخليًا وخارجيًا لتدعيم بقاء الدولة المصرية أصبح ضرورة ملحة في ظل وجود قيادة حكيمة.

إن تصريحات ترامب ومستشاريه في الحملة الانتخابية نحو تهجير ممنهج للأقليات المسيحية في الشرق الأوسط يمنح التعاطي مع هذا الملف بعدًا سياسيًا دوليًا وستظل مصر هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي تخطت هذه التحديات بنجاح وحنكة أثناء تعتيم وكالات الأنباء العالمية على المجازر والمآسي والخيانة التي خضع لها مسيحيو الشرق الأوسط في تهجير عرقي ممنهج ليكسر ميزة التعددية التي طالما تميزت بها دول المنطقة تاريخيًا وحضاريًا.
الجريدة الرسمية