رئيس التحرير
عصام كامل

ما أحوجنا إلى التفكير النقدي


التفكير النقدى يعد في الواقع قديمًا قدم الفلسفة، وهو بمثابة جسر للتفكير مع الآخر من خلال سمات مشتركة، فهو من أحد العوامل التي بواسطتها تتغير وجهة الحوار، فإذا تحقق قبول التفكير النقدى الإيجابي لدى الطرفين تنشأ أرضية مشتركة ويتغير مفهوم الحوار إلى الحوار (تفكير مع الآخر).


فالنقد هو مقدمة مهمة للتفكير المتكامل بين الطرفين المختلفين فإذا قبل كل طرف النقد الذي من شأنه البناء يصبح هناك تفاهم؛ ومن ثم حوار سليم مع احتفاظ كل طرف بكيانه وشخصيته الكاملة، فأى إبداع في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية يقوم على النقد وعلى التفكير الحر، ولُغويًا كلمة نقد تعنى critical وتأتى من كلمة kritikos اليونانية والتي تعنى القاضى؛ فالتفكير النقدي يجعل الإنسان يتوقف عن فعل الأشياء الخاطئة وغير القانونية.. والنقد هنا لا يعنى التشويه أو التراشق بالألفاظ أو البعد عن القواعد الأخلاقية كما نرى الآن كل يوم على صفحات "فيس بوك" وعلى بعض القنوات الفضائية والجرايد الصفراء.. إلخ.

فهو يعنى إذًا الوعى بوجود افتراضات مختلفة وطرح والإفصاح عن هذه الافتراضات ثم تقييم دقة تلك الافتراضات.. ومن الناحية الفلسفية نجد أن النقد يُنحى إلى شروط العقل ومقاييسه التي تتضمن تصورات صحيحة وتعطى قيمة صائبة للأفكار والأحكام ذاتها، فالتفكير النقدى يجعلنا نطرح الإشكاليات التالية:

هل يناسب هذا قيمنا؟ وهل يناسب هذا تربيتنا؟ وهل يناسب هذا أهدافنا؟ وهل يناسب هذا الإطار المجتمعى الذي نعيش فيه؟

فثقافة المجتمع الذي نعيش فيه هي نتاج من الثقافات والحضارات بداية من الفرعونية، والهيلينية، والهلينسية، فالمسيحية، والإسلامية العربية؛ ومن ثم لا بد من آليات متنوعة للحوار المجتمعى، والتفكير النقدى يدخل ضمن هذه الآليات لأنه ذو قدرة وفاعلية إذ يقوم بعملية مصالحة بين الأنا والآخر، وعملية تكامل بين الفرد والجماعة ومن ثم تغيير السلوك في التصرف إزاء العالم والناس؛ حيث يشعر الإنسان أنه لم يعد وحده في المجتمع بل يطغى عليه شعور يقيني لتقبل الآخر والحوار معه لأن من استخدامات ومهام التفكير النقدى هو الكشف عن العيوب والأخطاء وهو فحص وتقييم الحلول المعروضة ومن ثم حل المشكلات أو التحقق من الشىء وتقييمه بالاستناد إلى معايير متفق عليها مسبقًا؛ لأنه تفكير معقول مركز على اتخاذ قرار بشأن ما نصدقه ونؤمن به أو ما نفعله.

والتفكير الناقد هو التفكير الذي يتطلب المستويات المعرفية الثلاثة (التحليل والتركيب والتقويم)، لذا لو طبق بطريقة سليمة فإنه يكون قادرًا على تطوير المجتمعات في سياق ثورة المعلومات في كل المجالات المعرفية التي تتطلب عقلًا نقديًا يستطيع تفنيد هذا الفيض من المعلومات والتفرقة بين ما هو صالح وما هو طالح، وبين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، أي الانتقال من الذاتية إلى الموضوعية، أي من الأنا إلى الآخر، ومن الانغلاق إلى الانفتاح والتعايش مع ثقافات وعقائد وعادات مختلفة؛ ولذلك هو عملية إيجابية تضع الأشياء في سياق عملي ويؤدي إلى التواصل المعرفي مع الآخر، وهو أسلوب يحرر الإنسان من مفاهيم تسبب له القلق.

فالعقل النقدي هو الوسيلة الوحيدة لتحويل المعلومات إلى معرفة؛ لأن المعلومات لا تشكل معرفة؛ ومن هنا أصبحت مسئولية ضخمة على مجتمعاتنا العربية المعاصرة وهى تشكيل العقل النقدي الذي ينعكس بدوره على الجانب السياسي والثقافي والاجتماعي، والذي أيضًا بدوره ينعكس على التغيير الجوهري للفكر من مجرد التلقين إلى التحليل؛ ومن ثم تغيير نمط التنشئة الاجتماعية على أساس الإبداع، وتشجيع الحوار بأنماطه المختلفة.

ولذلك فهو نمط مهم من أنماط التفكير لأنه يجعل المواطن يبعد عن الأخطاء القاتلة والتوقف بالنقد والتفكير عند جميع الأطروحات والمبررات من مختلف المصادر وكل ما يعرض من إعلانات بالميديا، ومناقشة أي طرح سياسي أو عقائدي حتى لا يتم التصديق بكل ما يقال في المجتمع وفي حياتنا ومشكلاتنا اليومية.

بالإضافة إلى ما سبق يتطلب في التفكير النقدي عدة خطوات: كالدقة في ملاحظة الوقائع والأحداث من خلال التقييم الموضوعي والنقد العلمي للبعد عن النظر إلى الأمور بكل أشكال التعصب كالتعصب العنصري، والتعصب القومي المتطرف، والتعصب الديني حيث كل هؤلاء يشاركون في سمات واحدة: الانحياز إلى موقف مجموعة ينتمى إليها الفرد دون اختيار ودون تفكير، والاستعلاء على الآخرين والاعتقاد أنهم أقل ومن هنا يقفل باب العقل ونوافذ الحكمة؛ حيث كل متعصب يؤمن بحقيقته هو، ويؤكد بلا مناقشة خطأ الآخرين؛ ومن ثم ضياع الحقيقة بالمعنى العقلي في وسط هذا التناقض؛ ولذلك فالبعد عن وجهات النظر المتطرفة واجب مع الحفاظ على عدم القفز إلى النتائج والتمسك بالمعاني الموضوعية وعدم الانقياد لمعانٍ عاطفية لتنمية الروح النقدية التي لا تتأثر بالمسلمات الموجودة أو الشائعة وأن ينقد الإنسان نفسه ويتقبل النقد من الآخرين سواء على المستوى الشعبي العادي أو في الأوساط العلمية أو كلاهما معًا، ولا يقبل إلا ما يبدو له مقنعًا على أسس عقلية وعلمية سليمة ولا يعني ذلك أن يقف المرء موقف العناد المتعمد من كل ما هو شائع بل اختيار الآراء وإخضاعها للفحص العقلي وذلك للتكيف مع مجتمعه والانخراط فيه.

والآن علينا إقامة حوار موضوعي يتخلله الجانب النقدي في ظل المستحدثات والنظريات الجديدة.. وفي ظل تقدم العالم بسرعة تتجاوز أي توقعات، حوار قائم على المعرفة النقدية الحقيقية الروحية والاجتماعية ومعرفة حقائق الدين المشتركة بين المسيحية والإسلام مبتعدين عن منهج التلقين دون الفهم وتسليم عقولنا وإفهامنا لمن يتجاهل الحقائق الموضوعية منفتحين على الفلسفات النقدية وعلوم النفس وتحليلها وإيجاد حلول للمشكلات الاجتماعية ليصبح الإنسان مهيأ لأن يتفاعل مع المجتمع على جميع المستويات، وينزع من داخله أوهام النظريات الخاطئة، وقادرًا على أن يكون منفتحًا للمجتمع منفعلًا به على أساس روحي سليم وفهم شامل لرسالة الأديان السماوية على الأرض ومن ثم تجاوز كل الصعوبات والأزمان وتحويل آثارها السلبية إلى إيجابية، ولن يأتي ذلك إلا من خلال الحوار السليم في ظل قيادات واعية، قادرة على صياغة مفهوم سليم للحوار قائم على أساليب التفكير لا سيما التفكير النقدي.
الجريدة الرسمية