معركة الضمير
عن عمد آثرت ألا أكتب عن قناة السويس الجديدة في حينها؛ ووقفت على ناصية أسئلة واستفسارات من قرائي الأعزاء تحثني، بيد أني وددت ألا أمضي مع ركب الهوجة الإعلامية التي سادت وتسيدت وحولت الحدث- عن تواضع في التفكير وسوء تقدير – إلى صخب وغناء وزغاريد وتراشق بالقبيح من الألفاظ لمن عارض القناة أو قلل من قيمتها، وكأنه عرس في حارة شعبية أقيم خصيصا للكيد والنيل من أسرة رفضت تلك المصاهرة أو النسب ولا بد من إغاظتها والنيل منها ( مع احترامي للحارة المصرية وأهالينا الذين يجملونها بسكناهم ونفاخر بهم ).
لم يجد إعلامنا طوال عام كامل - هي مدة الحفر- وقتا ولا عقولا تخطط لاحتفالبة عالمية تليق بالحدث؛ بل ما يدعو للسخرية أنه ظل - دون وعي- يقدم لنا الاحتفال الأسطوري للخديو إسماعيل أثناء افتتاحه للقناة عام 1869 واحتفائه بالإمبراطورية أوجيني وبنائه للأوبرا وسراي الجزيرة واختفاء القمامة من القاهرة مواكبة للحدث، فتخيلنا أننا سنرى مثيلا، ثم قام بسطو غير شريف ولا مسبوق على أغان وطنية ارتبطت في الأذهان بالمرحلة الناصرية والساداتية لأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وغيرهم، وكأن أهل الفن متفرغون لكل شيء إلا الفن.
خلى إعلامنا وعلى مدى عام كامل قام بالعديد من الأفلام التسجيلية من موقع الحدث لتخليده وليرى العالم رأي العين عزم المصري وإرادته وتحديه، ولترى الأجيال الناشئة قدوة تتمثل وتقتدي بها بدلا من النماذج السيئة التي تعج بها حياتنا اليومية، تاريخنا الماضي وُثق بالنقش والرسم والتصوير الفوتوغرافي ذي الصورة الثابتة، ألم ينم إلى علم وسائل الإعلام أن هناك اختراعا اسمه التصوير بـ "الفيديو"؟! تخيلت لقاءات صورت وسجلت مع عمال بسطاء من موقع الحدث يحكون معاناتهم الإنسانية وتواضع أحوالهم المادية في وطن لم يحن عليهم بعد، ومع ذلك بذلوا الجهد والعرق بل الدماء – فمنهم من استشهد في موقع العمل – فداء للوطن.
توقعت أن تتصدر الشاشات الفضائية النخبة الوطنية المثقفة من علماء وأدباء ورجال فكر ودين وأساتذة علم نفس واجتماع، يستلهمون روح المصري العنيد الذي حفر القناة في عام بينما خبراء العالم قدروا المدة المتوقعة بثلاثة أعوام، انتظرتهم يستلهمون تلك الروح ليستنهضوا المواطن المصري وهمته ليوَقِع (وهو جالس في بيته يشاهد التلفاز) على صك الموافقة على تغيير السلبيات التي لحقت بالشخصية المصرية ليسترد سمت الأصالة والتسامح والعزيمة التي عرف بها منذ بنائه لحضاراته المختلفة مرورا بعصر نهضته إبان فترة محمد على وصولا لمشاريع التحرر التي قادها في الوطن العربي كله وليس بوطنه فقط.
انتظرت رسائل إعلامية ومنبرية ودينية واعية تحث الشعب على خوض معركة الضمير موقنا أنها معركة لا تحتاج لسلاح ولا عضلات ولا أصوات عالية ولا ألسنة قبيحة، بل سلاحها قوامه العمل والجد والاجتهاد والإرادة والعزم على بناء الوطن والتمسك بالقيم الدينية؛ لنجذب من أعماق الروح المصرية قدرتها على الإبداع والابتكار، وكيف أنها قادرة على أن تصدر أحلامها لتبهر العالم، وكي يوقن المصري ويؤمن بقدرته على أن يسمو بأخلاقياته وتعاملاته وأن ينحي عوراته التي تكشفت في السنوات الأخيرة ويرينا المواطن الصالح كيف يجب أن يكون.
الوقت لم يعد يحتمل الهدر والتبديد، فقد آن زمن السعي وبقوة لتحقيق الإنجازات والانتصاراتـ، وأن نقول لأنفسنا كفانا خسارات وانكسارات.. تمنيت أن يصبح المصري كالياباني مهووسا بالنجاح، يستنطق الصعب والمستحيل ليخلق وطنا يفاخر بنا ونفاخر به، وطن يحل مشكلة البسطاء ويخفف معاناتهم المعيشية من تعليم وصحة وغيرهما، فهم وقود البناء وصانعوا أسطورة النجاح والنصر وإن لم ولن يذكرهم التاريخ.
نريد إعلاما يدرك أن أنبل رسالة تلك التي لا يصاحبها الضجيج ولا تتوج بكلمات النفاق؛ إعلاما يضرب بيد من حديد على كل مقصر يرى قناة السويس تتم في عام بينما إصلاح بالوعة أو تمهيد طريق يحتاج لعدة سنوات! إعلاما يحارب سُرّاق الأرزاق وهواة النفاق وقُطّاع الأعناق والداهسين على الفقراء والمتراشقين بأرواح البسطاء.
أعرف أن الوطن يستعمره الحزن والوجع، لكنّي أحسبه كالطفل اليتيم يحتاج حضنا دافئا وحنوا وعطاء حتى يرضى، وحتما ولا بد سيسبغ بدوره علينا فلا يضن بعطائه أبدا حتى نرضى، أتمنى أن نضع الوطن على طاولة القمار أو الرهان، يراهن العاشقون والمجدّون وأصحاب المهارات والعقول وباذلو العرق والجهود والمضحّون بدمائهم، فهؤلاء وحدهم هم الذين يعرفون كيف يكسبون رهان النهوض بالوطن.
