رئيس التحرير
عصام كامل

عواد باع أرضه (2)


حين علمت أننا في بلدة أخرى غير بلدة جدتي، أيقنت أن السمسار وصديقه يستغلان سنوات غربتي وعدم معرفتي الجيدة بالأماكن، وحين عدت إليهما وجدت السائق يئن من مسمار جرح قدمه ويقول صارخا يا مدام رجلي هتتسمم وأنا رزقي ورزق عيالي كله في شغلي، أجرى أحدهما اتصالا هاتفيا، وقال سيأتي إلى هنا رجل ليعطيك حقنة تيتانوس، اعترض السائق لا يمكن أن أقبل حقنة هنا في الشارع من شخص لا أعرفه، وتعجبت كيف يصل حد الولع بالمال وكسب الوقت إلى إعطاء حقنة للسائق لا نعرف ما بها من شخص مجهول.


وانفجرت فيهما عن اكتشافي لكل هذا الفيلم السينمائي الهابط، فإذا بالرد وبمنتهى البساطة، على أد فلوسك يا مدام أراضي المباني بقت أسعارها خيالية والبلد دي أرخص من بلد جدتك بكتير، سمع صوتنا رجل تبدو عليه أمارات الوجاهة، وعرفته الطبيب صديق خالي القديم في هذه البلدة، فكان كمن أنقذني من موقف صعب وضعت نفسي فيه واصطحبني أنا والسائق إلى منزله، وكانت عمارة عالية على أول الشارع، وقال وهو يسعف السائق القطعة إللي قالوا لك عليها متباعة لسه ما اتباعتش وكانوا عاوزينك تشتري التانية ليتخلصوا منها وبسعر غال جدا، شغل سماسرة لو عايزة تشتري هنا قولي لي أنا أجيب لك أحسن قطعة وبسعر مناسب.

قلت بمنتهى العفوية: بس دي أراضي زراعية يا دكتور، فقال عادي وأيه المشكلة، بتتعمل قضية وبتاخدي محامي وبيعملوا تصالح، أنا عملت كده وكل الناس بتعمل كده والشارع ده خلاص مستحيل يرجع أرض زراعية تاني إن عاجلا أو عاجلا، سيتحول رسميا إلى أرض مبانٍ، ودعت صديق خالي الذي شرح لنا طريق العودة لبلدة جدتي وسؤال يلح في ذهني كيف انقلب الهرم في حياتنا وأصبح الخطأ مقبولا وعاديا وقاعدة متبعة رغم شذوذها، طلبت من السائق أن يتركني عند القبور.

وهناك حول القبور لا مساحات للحزن والبكاء على الراحلين غير موضع قدم صغير؛ حيث يختلط الموت بالحياة، ولم أفهم هل هم أحياء يشاركون الأموات موتهم أم أموات يشاركون الأحياء حياتهم، والخضرة اختفت على مدد الشوف لا ترى غير البيوت والعمارات، بل إن بعضها أنيق يتحدى حزن القبور ويضج بالأصوات ليقلق مرقدهم الأخير، هنا يصرخ الموتى والأرض معًا أغيثونا من البشر، وأنا أصرخ معهما كيف فعلتم هذا بأرضي؟، لم تكن ملكي لكنها شاركتني ماضي عزيز حرمتوني من لونه ورائحته وصوره.

وخلصت إلى أنه أحيانًا لا يجب أن نعود إلى الأماكن التي كانت لنا فيها ذكريات غالية، فالأماكن تغيرها السنوات وتغير معها الأحباء اللذين شاركونا ماضينا البعيد، فنعود من رحلة بحثنا عن مشاعر قديمة بخيبة أمل تشوه الذكرى.
الجريدة الرسمية