رئيس التحرير
عصام كامل

عواد باع أرضه


(1)
في إجازتي الأخيرة لمصر وتحديدا في مدينة الزقازيق، فكرت أن أستثمر مبلغا من المال ونصحني البعض بشراء قطعة أرض، بالفعل توسطوا لي لدى سمسار عقارات وأراضٍ، وخرجت معه ليعرض علىّ القطع التي تتناسب مع المبلغ المتوفر لدىّ. 

كانت القطعة الأولى عند موقف المنصورة حسب قوله، ولكننا ابتعدنا عن الموقف كثيرا، وحين توقف التاكسي تساءلت دي منطقة أراضي زراعية، فرد السمسار تعالى بس يا مدام وهتشوفي، كنا نتوغل داخل الأراضي الزراعية ومن حين لآخر نصادف بيتا مبنيا، كأن الرياح حملته من المدينة وألقت به وسط الزراعات كجريمة طمع ضد الطبيعة الطيبة.

وتوقفنا عند قطعة الأرض المقصودة فتعجبت، دي أرض زراعية وكل ما يحيط بها أراضٍ زراعية، يا مدام إحنا نبورها ليكِ من الصبح، بدت الجملة مفزعة.. تلك الجرأة على قتل الأرض بهذه البساطة.

اقترب منا رجل، قال إنه اشترى لتوه قطعة الأرض المجاورة وبسعر أكبر من السعر الذي عرضته، هناك شيء ما في قلب البشر يشبه الرادار يصدر ذبذبات الحذر وقت الخطر، كان هذا هو إحساسي تجاه الرجل الذي ظهر فجأة كأنه كان ينتظرنا، طلبت أن أرى القطعة الأخرى التي قال السمسار إنها في بلدة جدتي.

واتجهنا بالفعل إليها لكننا لم نتوقف عندها، فقلت استنى إحنا عدينا البلد، لا يا مدام البلد تضاعف حجمها في غيابك وبقت مركز ومدينة كبيرة، ولكننا كنا نبتعد ونبتعد، وتبذل ذاكرتي أقصى طاقتها لتتذكر الطريق حتى خيل إلىّ أن ضبابا كثيفا أحاط عيوني، فأصبحت لا أميز أي شيء.. تتموج الشوارع وتبهت ألوانها وتتقارب مبانيها المتناثرة على جانبي الطريق تارة، وتتباعد تارة، وحجاب نسجته السنوات يعزلني عن ماضٍ بعيد ويجعلني كالغريب في بلده.

وتوقف التاكسي أمام شارع أو ما يشبه الشارع، اتفضلي يا مدام هنا منطقة مبانٍ، ودخلنا الشارع الذي بدا ترابه يئن تحت أقدامنا ويكاد يصرخ فينا "أنا كنت يوما أرضا تنبت لكم الخير ووأدتوها"، كان الشارع مكتمل المباني تقريبا وبعضها مسكون، وتم توصيل الكهرباء والمياه إليها، ولا أعلم حتى هذه اللحظة كيف تم هذا رغم أنها ما تزال في الأوراق الرسمية أراضٍ زراعية، لم يبق من الشارع إلا قطعتا أرض للبيع، وقفنا أمام إحداهما في أول الشارع، واقترب منا رجل وقال "لا يا جماعة الأرض دي اتباعت، خدوا القطعة التانية في آخر الشارع".. يبدو مريبا ظهور شخص كل مرة في توقيت محدد، تلك هي الصدفة المرتبة.

تركت الرجلين خلسة، ورحت أدور حول الشارع، وأوقفت أحد المارة وسألته إحنا هنا في القنايات، قال لا في كفر الصالحي.
الجريدة الرسمية