رئيس التحرير
عصام كامل

فى رثاء أمى


دخلت أمى المستشفى حية لتعالج من مرض السكر، فخرجت متوفاة بعد إصابتها بمرض في الكبد.
هذا هو حال كل المرضى المصريين الذين يدخلون المستشفيات الحكومية، فقد دخلت أمى الجناح الاستثمارى بأجر بمستشفى الجامعة في شبين الكوم؛ لإجراء جراحة لإزالة فطريات في الجلد ناتجة عن مرض السكر، وكان هذا الدخول بناءً على طلب الطبيب المعالج الذي أجرى لها الجراحة، وكانت حجته أن دخولها المستشفى سيمكنه من تغيير الجرح بنفسه لها، ومن ثم تثبيت مستوى السكر في الدم، وبالتالى التئام الجرح بسرعة، على أن تخرج في غضون ثلاثة أيام.


كان كلام الطبيب منطقيا، غير أننا فوجئنا بعد ثلاثة أيام من إجراء الجراحة أنها تتقيأ دما، فأقنعنا الطبيب الجراح بأن هذا القيء ناتج عن جرعة المضاد الحيوى الزائدة! وأبلغنا أنه قام بتخفيفها وأنه لن يتكرر، صدقنا كلامه، حتى فوجئنا بعد يومين بانتفاخ في البطن وورم في الساقين، لكن الطبيب حاول أيضا إقناعنا بأن ماحدث مجرد انتفاخ!، بل أجرينا لها أشعة روتينية في المستشفى، فقالوا لنا إن الكبد سليم!
 الغريب أن الطبيب الجراح بدأ يصرف لها حقن شرجية لعلاج الانتفاخ المزعوم، والأغرب أن الممرضات كن يطلبن منا نحن أهل المريض أن نعطيها لها لأن ذلك ليس من اختصاصهن!.

أمضينا يومين في محاولة البحث عن طبيب جهاز هضمى وكبد أو باطنى بالمستشفى دون جدوى، فقد كانت أعراض وعلامات مضاعفات الكبد على أمى واضحة وصارخة، حتى بحثنا عن "واسطة" أو "محسوبية" أو "كوسة" واستقدمنا طبيبة كبد تمت لنا بصلة قرابة، فبدأت ممارسة الضغط لإجراء أشعة حقيقية وليست وهمية، أظهرت أن أمى مصابة بتليف في الكبد، وبعدها بساعات كان الله رحيما بها وفاضت روحها إلى بارئها في نفس الليلة التي أجرت فيها الأشعة.

الأيام الثمانية التي قضيتها بجوار أمى في المستشفى، أكدت لى أن مفهوم الكونسولتو غائب تماما عن العلاج في مستشفيات مصر، وكل طبيب يعمل في جزيرة منعزلة، فالجراح لم يكن يعنيه ولايهمه سوى الجراحة، وعلى كثرة الأطباء الذين ذهبت إليهم أمى لم يكتشف أحد أنها مصابة بتليف الكبد، كانت تذهب إلى طبيب بعينه فقط لتسمع منه كلمة "إنتى كويسة وزى الفل ياحاجة أم عماد" وترفض شراء الدواء لأنها تعتقد أنها سليمة، بل إن تحاليل الأنزيمات والوظائف التي أجريت لها كانت كما يدعون.. جيدة.

غير أننى اكتشفت أن هناك من يرفض إبلاغ أهل المريض بأن حالته متأخرة حتى لايؤلمهم، وربما يفسر هذا أن حالة والدتى كانت كذلك، لكن أحدا لم يملك شجاعة إخطارنا بالحقيقة.

غابت من كان يرحمنى ربى من أجلها، رحلت من كانت فيضانا هائلا من العطاء والبراءة والتسامح والنقاء، لم يكن في قلبها حقد أو غل، لم تسيئ طوال حياتها لأحد، لم تعتد أو تظلم، حتى من كنا نراهم ظلموها، لم تكن هي تراهم كذلك، كانت تدير خدها الأيسر لمن يضربها على خدها الأيمن، عاشت في سلام متصالحة مع نفسها قبل أن تتصالح مع الآخرين.

لو عاد بنا الزمن إلى الوراء لما ذهبنا بأمى إلى المستشفى، لكى يتحول جسدها النحيل إلى وعاء يمتلئ بمياه المضادات الحيوية طوال عشرة أيام، ليتأثر الكبد سلبا بالمضادات الشديدة وتتقيأ دما وتنتفخ بطنها.

أعلم أن ماحدث لأمى مجرد سبب، وأن لكل أجل كتابا، وأنها كانت ستلقى ربها في نفس الموعد حتى لو لم تذهب إلى المستشفى، لكن فراقها سيظل يؤلمنى ماحييت، ولن تجف دموعى على غيابك يا أعز وأغلى وأطيب وأطهر الناس.
الجريدة الرسمية