رئيس التحرير
عصام كامل

الخشت بين العقل والتراث المغلق

18 حجم الخط

لم يكن ما قاله الدكتور محمد عثمان الخشت صدمة للفكر الديني، بل صدمة للجمود الذي اعتاد أن يتخفى وراءه، فالرجل لم يأتِ بشعارات، ولا مارس استفزازا مجانيا، بل قدم رؤية عقلانية متماسكة لإصلاح الفكر الديني، تنطلق من قراءة تاريخية دقيقة، وتستند إلى فهم عميق لأزمات التعليم ومنهجية التفكير، وإلى إدراك واعٍ لتحديات العالم العربي والإسلامي في زمن تتغير فيه الأسئلة قبل الأجوبة.

الخشت لا يهدم التراث، بل يعيد ترتيب العلاقة معه. ولا يستفز الإيمان، بل يستفز الكسل العقلي الذي طالما احتمى باسم المقدس. ولهذا تحديدا، لم يكن غريبا أن يتحول حديثه إلى ساحة هجوم شرس، لا لأن أفكاره ضعيفة، بل لأنها أصابت منطقة محرمة لم يسمح طويلا بالاقتراب منها.

وهنا يفرض السؤال نفسه بإلحاح: لماذا كل هذا الغضب؟ ولماذا كل هذا الهجوم؟ الجواب واضح لمن يقرأ المشهد بوعي: لأن الخشت تجرأ على نقد الغزالي.. نقد لم يكن تجريحا ولا إسقاطا، بل مساءلة فكرية..

لحظة تاريخية كان لها أثر بالغ في تشكيل علاقتنا بالعقل والفلسفة. غير أن مجرد الاقتراب من الغزالي كفيل بإطلاق صفارات الإنذار، كأننا أمام نص مقدس لا مفكر تاريخي قابل للنقد.. الهجوم على الخشت لم يكن دفاعا عن الغزالي بقدر ما كان دفاعا عن إرث طويل من الخوف من الفلسفة، ومن الشك في البرهان، ومن الارتياب في العقل الحر. إرث ارتاح إليه كثيرون لأنه يعفيهم من عناء التفكير، ويمنحهم يقينا جاهزا لا يُسأل.

ولهذا تشن المعارك لا بالحجج، بل بالتخوين. ولا بالنقاش، بل بالتحريض. فكل محاولة لإعادة الاعتبار للعقل تقابل بوصفها خطرا وكل دعوة للفلسفة تستقبل كتهديد، لأن العقل إذا استيقظ، سقطت الوصاية..

ولهذا كتبت هذا  المقال: لا دفاعا عن شخص، ولا خصومة مع تراث، بل دفاعا عن حق العقل في أن يفكر، وحق التاريخ في أن يقرأ، وحق الدين في أن يتحرر من الخوف، لم يكن الجمود قدرا مكتوبا على العقل الإسلامي، بل اختيارا تاريخيا جرى تبريره باسم اليقين.

وحين نعود إلى لحظة الغزالي، لا نعود إليها بوصفها تراثا معصوما، بل بوصفها منعطفا حاسما، لحظة غلبت الطمأنينة على المغامرة، والسلامة على السؤال.. فمن وجهة نظري، ترك لنا الغزالي إرثا ثقيلا من الارتياب في الفلسفة والبرهان، إرثا جعل العقول من بعده تميل إلى الحذر بدل المغامرة، وإلى السلامة بدل الجرأة. 

ألقى بظلال كثيفة على مساحات التفكير الحر، وحوّل الفلسفة إلى شبهة، والفيلسوف إلى متهم، فترسخ الخوف من الحرية الفكرية، واستُبدلت شجاعة السؤال بطمأنينة التقليد. لقد امتلك الغزالي أداة الشك، لكنه لم يحررها.

حول الشك إلى سلاح، غير أنه وجّهه إلى صدور الفلاسفة، لا إلى المسلمات التي كبّلت العقل وأغلقت أفقه. وفي تهافت الفلاسفة لم يكتفِ بالنقد العلمي، بل مارس ما يشبه نزع الشرعية الفكرية عن الفلسفة ذاتها، فانتقل بها من فضاء معرفي مشروع إلى تهمة أخلاقية يُخشى الاقتراب منها.

كان يمكن للغزالي أن يكون جسرا بين النص والبرهان، بين الإيمان والعقل، لكنه اختار أن يكون سورا، كتب التهافت كما لو أنه سكب ماء على نار كانت توشك أن تتوهج، فصارت رمادا في أروقة الفلسفة. أطفأ جذوة السؤال في زمن كانت الأسئلة فيه حياة، وأورث العقول عادة الانكماش على يقين صغير، بدل التطلع إلى أفق واسع.

لقد صنع مناخا جعل أجيالا كاملة من المفكرين تخشى الاقتراب من الأسئلة الكبرى، وأخضع التفكير الحر لرقابة مزدوجة: رقابة النص حين يساء فهمه، ورقابة السلطة حين تتوارى خلفه. وهكذا لم يعد العقل شريكا في الفهم، بل تابعا ينتظر الإذن.

من هنا، فإن نقد الغزالي اليوم ليس ترفا فكريا ولا نزوة ثقافية، بل فعل تحرير للوعي من أثر قرار تاريخي كبل العقل باسم الدين. وكما جرؤ الغزالي على تفكيك الفلاسفة، يجب أن نجرؤ نحن على تفكيكه هو؛ لا كفرد ولا كقيمة روحية، بل كحالة ذهنية كرّست الطاعة وخافت الحرية، ومجّدت اليقين الجاهز وضيقت الخناق على السؤال.

فالشجاعة الفكرية لا تكون في ترديد ما قيل، بل في مساءلته، الغزالي ليس نبيا ولا نصا مقدسا، ومن حوله إلى منطقة محرمة على النقد فقد صادر العقل باسم الدين.. أما الخشت، فلم يفعل أكثر من أن أعاد فتح باب أغلق عمدا: باب السؤال، وباب الفلسفة، وباب الثقة في قدرة العقل على الفهم دون وصاية.

أما اتهامه بالمساس بالثوابت، فليس إلا رد فعل تقليدي لكل عقل يشعر أن أرضه تهتز.. فكل دعوة إلى الفلسفة تقابل باتهام، وكل دفاع عن العقل يوصم بالانحراف، لأن العقل الحر أخطر على السكون من أي خصم خارجي.

الخشت لا يسحب البساط من تحت الدين، بل من تحت الكسل الفكري الذي عاش قرونًا متحصنًا وراء أسماء كبيرة. وكل هجوم عليه هو اعتراف غير مباشر بأن مشروعه أصاب موضع الألم، مشروع الخشت استعادة لروح الاجتهاد، لا التلقين. روح السؤال، لا الاتهام. روح العقل الشجاع، لا العقل المرتجف.

نقد الغزالي ليس إسقاطا للتاريخ، بل تحريرًا منه. والتمسك به كيقين نهائي ليس وفاءً له، بل خيانة لروحه التي ادعت الشك ثم أغلقت بابه، فإن كان العقل عندكم تهمة، فلتعلنوا ذلك صراحة. وإن كانت الفلسفة خطرًا، فقولوا: نحن نخافها. لكن لا تختبئوا خلف الدين لتبرير خوفكم من الحرية.

في النهاية، ليست المعركة حول الغزالي، ولا حول الخشت، بل حول صورة العقل الذي نريده لمستقبلنا. عقل يكرر أم عقل يفكر؟ عقل يحتمي بالأسماء أم يواجه الأسئلة؟

إن تحويل المفكرين إلى أيقونات معصومة هو أول خطوة في قتل الفكر، لأن العقل الذي يُمنع من مساءلة الكبار يُمنع تلقائيًا من ابتكار الصغار. والتراث الذي يُقرأ بوصفه خاتمة، لا بوصفه بداية، يتحول من طاقة حية إلى عبء ثقيل.

مشروع محمد عثمان الخشت لا يطلب أكثر من حق بسيط وخطير في آن: أن نفكر دون خوف، وأن نقرأ تاريخنا بلا قداسة زائفة، وأن نعيد وصل ما انقطع بين الإيمان والعقل، بين النص والحياة.
ومن يهاجم هذا المشروع لا يدافع عن الدين، بل يدافع عن صورة جامدة له، صورة لا تحتمل السؤال لأنها لم تُختبر.

أما الغزالي، فسيظل مفكرا وله ما له وعليه ما عليه، لكنه، واحترامه الحقيقي لا يكون بتحنيطه، بل بامتلاك الشجاعة التي امتلكها هو نفسه: شجاعة النقد. فمن حق كل جيل أن يعيد النظر في القرارات الفكرية التي شكلت مصيره، خاصة تلك التي كتبت في لحظة خوف أكثر منها لحظة ثقة بالعقل.

العقل الذي يخاف من الفلسفة، عقل لم يصالح نفسه بعد. والدين الذي يحتاج إلى إسكات السؤال كي يبقى، دين لم يُمنح الفرصة ليبرهن على قوته. لهذا، فإن الرهان الحقيقي ليس على إسكات الأصوات الجريئة، بل على توسيعها. فالتاريخ لا يتقدم بالصمت، ولا بالإجماع القسري، بل بالاختلاف الخلاق.
والمستقبل لن يكون لمن يحرس الأسوار، بل لمن يجرؤ على فتح الأبواب.

ونقدم لكم من خلال موقع (فيتو)، تغطية ورصدًا مستمرًّا على مدار الـ 24 ساعة لـ أسعار الذهب، أسعار اللحوم ، أسعار الدولار ، أسعار اليورو ، أسعار العملات ، أخبار الرياضة ، أخبار مصر، أخبار اقتصاد ، أخبار المحافظات ، أخبار السياسة، أخبار الحوداث ، ويقوم فريقنا بمتابعة حصرية لجميع الدوريات العالمية مثل الدوري الإنجليزي ، الدوري الإيطالي ، الدوري المصري، دوري أبطال أوروبا ، دوري أبطال أفريقيا ، دوري أبطال آسيا ، والأحداث الهامة و السياسة الخارجية والداخلية بالإضافة للنقل الحصري لـ أخبار الفن والعديد من الأنشطة الثقافية والأدبية.

تابع موقع فيتو عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــــــنا

تابع موقع فيتو عبر قناة (واتساب) اضغط هــــــــــــنا

تابع موقع فيتو عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــــنا

تابع موقع فيتو عبر تطبيق (جوجل نيوز) اضغط هــــــــنا

الجريدة الرسمية