رئيس التحرير
عصام كامل

جورج وفاروق.. بطلان من مصر

هو الأعلى قدرا وقيمة وقامة، هو واحد ممن وهبوا أنفسهم للقضية الفلسطينية منذ نعومة أظفاره حتى محطة أوسلو عندما قرر المغادرة بعيدا عن الموقف كله فى واحدة من ليالي الثورة المخطوفة، لم يكن ليل القاهرة على عادته من صخب السيارات وزحام المركبات، كان الضوء الخافت يغلف ميدان الحرية والضجيج قادم من أعلى حناجر لا تزال تهتف أو تغنى أن تصرخ، خليط من لحم ودم وأحلام لا تزال ترى فى الأفق نورا.


كنت على موعد مع شخصية كم حلمت بأن ألقاها وأن ألامس أياديها البيضاء على أمة تتذكر قليلا وتنسى كثيرًا، كان موعدى للقاء فاروق الأزهرى بلا ألقاب فقد هزم ودُّه كل الألقاب.. فاروق القاضى أو أحمد الأزهرى وما أدراك من هو أحمد الأزهرى.

Advertisements


هو واحد من نبلاء القوم كلهم أو هو الأعلى قدرا وقيمة وقامة، هو واحد ممن وهبوا أنفسهم للقضية الفلسطينية منذ نعومة أظفاره حتى محطة أوسلو عندما قرر المغادرة بعيدا عن الموقف كله أو عن كل المواقف مفضلا الحياة فى ظل الأيام الخوالى.


تعرف أحمد الأزهرى على ياسر عرفات طالب الهندسة بالجامعة، وظلا معا حتى أطلقا مشروع فتح الثورى، واستمر هناك يناضل ويقاتل من أجل الثورة الفلسطينية، وقدم خلال مسيرته عهدا ووعدا وصدقا فى كل ساحات النزال الشريف حتى جاء موعد أوسلو.. هنا فارق القاضي الخل خله بوداعة ونبل وإخلاص.. غادر ياسر عرفات إلى الداخل وظل الأزهرى هناك فى عمان يعيش حالة من الكتابة المنحوتة بواقع عايشه وعاشه فى كل سنوات عمره.

أحمد الأزهرى وجورج إسحاق


لم أكن أعرف أحمد الأزهرى إلا من حكايات أصدقاء ومن كتابات مبدعين، وجاءت اللحظة، وكم تمنيت أن ألقاه، ولم يكن من صديقى النبيل المناضل جورج إسحاق إلا أن وفر لى هذا اللقاء بأحد مطاعم فندق سميراميس المطل على خلفية ميدان التحرير.


ورغم أن اللقاء جاء على عجلة فى إحدى زيارات الأزهرى لمعشوقته قاهرة المعز إلا أن اللقاء وتوقيته ومكانه كان يحمل من الدلالات والمضامين ما يجعله لقاء سحابيا بين جورج إسحاق مناضل بورسعيد أيام العدوان الثلاثى والممسك على الأرض بقاء واستمرارا مع أحمد الأزهرى الثائر العابر للحدود فى تمرده.


كنت أجلس فى مواجهة الاثنين «عم جورج» والكبير «أحمد الأزهرى» وأطالع وجهين ربما ينتميان إلى نفس الجيل وإلى ذات الطينة المصرية الخالصة، عم جورج ربعا ليس طويلا، وعم الأزهرى طويل القامة تختلط حمرة وجهه ببياض ملائكى، وكلاهما رسمت على وجهه تجاعيد النضال مسحة من الإباء والكبرياء قلما تراها فى غيرهما.


كانت هناك على الجدار المقابل شاشة عملاقة مثبتة على قناة الجزيرة بكاميرات تجوب الميدان يمنة ويسرة لتنقل حشود الشباب الحالم، وعلى وجه الأزهرى استفسارات تجيب عنها ملامح عم جورج.. كلاهما كان سعيدا تعلو وجهيهما ابتسامات الرضا، فكلاهما ثورى وإن اختلف الطريق.


أحمد الأزهرى آثر النضال هناك، حيث القضية الأم، فكان مثالا فى العطاء، فاحترمته كل القوى الوطنية الفلسطينية، وعم جورج فضل البقاء هنا إيمانا بأن تحرير مصر من الديكتاتورية هو طابور اصطفاف لتحرير القدس.. تحرير الإنسان قبل تحرير الأرض.


يمسك عم جورج بهاتفه المحمول ليحادث شابا فى الميدان منبها بضرورة التزام الهدوء والسلمية، وعدم الانجرار لاستفزازات أمنية، فرجال الأمن ليسوا مستوردين، إنهم من طين هذا البلد، وكل ما فى الأمر هو تغاير وجهات النظر حول الوطنية والحرية والاستقرار.


ينصت عم أحمد الأزهرى لمكالمة عم جورج، ويسأله بين الحين والآخر عن التمرد وفلسفته ودوره فى الثورات، ويرد عم جورج بتجربته فى الداخل بمعايير التمرد وهويته وتاريخه بين شعوب الأرض.. مساجلة أعمق من أن تراها بين فلاسفة الكتب والنظريات.


قبل أيام قليلة كنت مدعوا لحضور ورشة عمل حول الحبس الاحتياطى بالمجلس القومى لحقوق الإنسان، قابلت عم جورج فقبَّلت رأسه واحتضنته، وكانت آخر تحية بيننا قبل أن يفارق ويغادر أيامه على الأرض، وسألته عن الأزهرى فكان جوابه وكأنه يلقاه يوميا.


رحل عم جورج إسحاق وترك فينا مثلا وقيمة، وبقى أحمد الأزهرى أمد الله فى عمره، ولكنه لا يزال هناك فى عمان يراقب ويتذكر ويكتب سطورا من نور تجربته الإنسانية الملهمة.. رحم الله عم جورج وأسكنه فسيح جناته وجزاه عن وطننا خيرا، وأمد الله فى عمر أحمد الأزهرى ليظل طيفًا من نور.

الجريدة الرسمية