رئيس التحرير
عصام كامل

محمد الخضر حسين.. جزائري تولى مشيخة الأزهر وهدد مجلس قيادة الثورة

الشيخ محمد الخضر
الشيخ محمد الخضر حسين

الإمام الأكبر محمد الخضر حسين، فقيه، وعالم لغوي، ومصلح ديني، ورائد من رواد الوسطية والتجديد وأحد كبار شيوخ الجامع الأزهر، صدع بالحق، ودافع عن أصول الدين والشريعة الإسلامية، تولى مشيخة الأزهر وهو الجزائري الأصل التونسي المولد المصري الجنسية.
مولده ونشأته 
في 16 أغسطس 1876م الموافق 26 رجب 1293هـ بمدينة “نفطة” التونسية، ولد الإمام الأكبر فضيلة الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله في بيئة علمية محافظة تنتهج الصوفية الإيجابية مذهبا، لكن أصول الشيخ تعود لأسرة جزائرية، فأبوه من عائلة “العمري” من قرية “طولقة” بمدينة “بسكرة” الجزائرية، وأمه من “وادي سوف” بالجزائر.


محمد الخضر حسين


واسم الشيخ هو محمد الأخضر بن الحسين بن علي بن عمر، فلما جاء إلى الشرق حذف «بن» من اسمه على الطريقة المشرقية، وغلب عليه الخضر عوضًا عن الأخضر.

تعلم الشيخ الخضر القرآن الكريم حفظا وتفسيرا على يد أمه “حليمة السعدية بنت الشيخ مصطفى بن عزوز” وفي عام 1889 قدم لتونس العاصمة والتحق بجامع الزيتونة وهو في الثانية عشرة من عمره ثم تخرَّج محمد الخضر حسين في الزيتونة غزير العلم، واسع الأفق، فصيح العبارة، مُلما بمبادئ العلوم الشرعية، محبًّا للإصلاح، فأنشأ مجلة (السعادة العظمى) سنة 1902م لتوقظ الغافلين من أبناء أمته، وتفضح أساليب الاستعمار، وترشد الناس إلى مبادئ الإسلام وشرائعه، وكانت أول مجلة عربية أدبية علمية في شمال إفريقيا.
رحل الخضر حسين إلى دمشق، ثم سافر إلى إسطنبول ولم يمكث بها طويلًا، فعاد إلى بلاده ظانًا أن الأمور قد هدأت بها، لكنه أصيب بخيبة أمل وقرر الهجرة مرة ثانية، واختار دمشق وطنا له، وعُيِّن بها مدرسًا للغة العربية في المدرسة السلطانية سنة  1912م، ثم سافر إلى إسطنبول ثانية، فاختاره أنور باشا وزير الحربية محررًا عربيًا بالوزارة، ثم بعثه إلى برلين في مهمة رسمية، فقضى بها تسعة أشهر. 
رحل الشيخ إلى الجزائر وزار أمهات مدنها، وألقى بها دروس مفيدة، ثم عاد إلى تونس، وإلى التدريس بجامعها، وقد حاولت في هذه الفترة السلطات الفرنسية ضمه إلى المحكمة الفرنسية فرفض بشدة، وفي سنة 1911م وجهت له تهمة روح العداء للغرب وخاصة سلطات الحماية الفرنسية، فأحس الشيخ بأن حياته وحريته في تونس معرضة للخطر، فسافر إلى إسطنبول بحجة زيارة خاله بها، وبدأ رحلته بمصر ثم دمشق التي استقر بها 3 سنوات ( 1913م - 1916م ) تعرض فيها للاضطهاد فسجنه جمال باشا السفاح الوالى العثمانى في بلاد الشام، ثم انتقل إلى إسطنبول، وعندما سمع بأن الأحوال هدأت بتونس عاد إليها عن طريق نابولي الإيطالية، لكنه وجد أن الأمر ازداد تعقيدا، فأزمع الهجرة نهائيا واختار دمشق موطنا ثانيا له، وخلاله رحلته مر بمصر والتقى بمشايخها الكبار الساكنين بها مثل الشيخ طاهر الجزائري ومحمد رشيد رضا والشيخ محب الدين الخطيب.


ولما سقطت الشام في أيدي الفرنسيين 1920م حكم عليه الفرنسيون غيابيا بالإعدام لاتهامه بالمشاركة في التحريض على الثورة ضدهم في شمال إفريقيا، فهرب إلى مصر، وبقي فيها إلى نهاية حياته. 
عمل في مصر مصححًا بدار الكتب المصرية بشفاعة “أحمد تيمور” باشا الذي عرف قدره، وكان يلقي المحاضرات والدروس في مساجدها، ويكتب المقالات المتنوعة الكثيرة. كما تعرف إلى طائفة من أعلام علمائها النابهين، مثل: الشيخ طاهر الجزائري والشيخ رشيد رضا والسيد محب الدين الخطيب. 
أنشأ في القاهرة  عدة جمعيات دينية وثقافية مع بعض المشايخ منهم شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي، لمحاربة الفساد والإلحاد، والتعريف بالإسلام، والسعي لتمتين الصلات بين الشعوب الإسلامية والسعي لإصلاح شأن اللغة العربية وإحياء آدابها، كما أصدر مجلة “الهداية الإسلامية” لتكون لسان حال الجمعية.

قصة اختيار محمد الخضر حسين شيخا للأزهر


اختير الشيخ محمد الخضر حسين للتدريس في قسم التخصص بالأزهر، وهذا دال على مدى علمه، إذ لا يدرس في الأزهر آنذاك إلا كبار العلماء. كما تولى رئاسة تحرير مجلة الأزهر 4 سنوات، ورئاسة تحرير مجلة “لواء الإسلام”، واختير عضوا بـ”مجمع اللغة العربية الملكي” عند إنشائه في القاهرة سنة 1932م، وأيضا عضوا لهيئة كبار العلماء سنة 1950م، ثم شيخا للأزهر خلفا للشيخ عبد المجيد سليم ابن محافظة المنوفية الذي ولى مشيخة الأزهر مرتين، وأُقِيل في أولاهما؛ لأنَّه نقدَ الملك، ثم استقال من المنصب في المرة الثانية في 17 سبتمبر 1952م وإعفاء الشيخ إبراهيم حمروش الذي تولى بعده لشهور قليلة.
وتولى الشيخ محمد الخضر حسين مشيخة الأزهر تحقيقا لنبوءة السيدة حليمة والدته التي كانت تهدهد وليدها الخضر حسين وتقول له " تكبر يا الاخضر وتكون شيخ الازهر"، لكن الموت غيبها قبل أن تشاهد بعينيها ما كانت تراه حلما. 
وعن ملابسات اختياره شيخا للأزهر أنه بعد قيام ثورة يوليو سنة 1952 في مصر، تم الاتفاق على أن يتولى قيادة الأزهر مجاهد عربي من قادة المسلمين ومن أصل بلد دفع فيما بعد مليونا ونصف المليون شهيد في سبيل حريته هو الجزائر. 
وعن قصة تعيينه قال عبد اللطيف فايد المؤرخ لمسيرة مشائخ الأزهر: عندما خلا منصب شيخ الأزهر في عهد عبدالناصر، بعث عضو في مجلس قيادة الثورة إلى الشيخ الخضر الذي لم يكن يتولى أي وظيفة، وطلب منه أن يرشح له أسماء تصلح لتولي منصب الامام الأكبر، وكان يسأله عن رأيه في فلان أو فلان فيرد بأن هذا استاذه وشيخه في الحديث وذاك استاذه في التفسير والفقه.. الخ. وكان يثني على ما يسمع من ترشيحات ولم يطعن في أي اسم عرضه عبدالناصر عليه وقال جملة في النهاية بأن كل هؤلاء جديرون بهذا المنصب الرفيع. ثم فاجأه: وانت ماذا تقول في نفسك؟.. فأجاب: أنا تلميذ لهؤلاء جميعا وكلهم شيوخي وتعلمت منهم.
وتابع: نقل ذلك المسؤول كلام الخضر إلى الرئيس جمال عبدالناصر، فقال: هذا هو شيخ الأزهر، لقد امتدح كل العلماء ولم يفضل نفسه عليهم، وأصدر قراره بذلك، وكان الخضر في ذلك الوقت متقدما في السن.
وفوجئ يوم 16 سبتمبر عام 1952، بثلاثة من الوزراء توجهوا إلى بيته في شارع خيرت بالقاهرة ليعرضوا عليه باسم الثورة، موقع مشيخة الأزهر، فرحب به.
أما تاريخ إصدار وثيقة تعيينه، فكان 22 سبتمبر، وتاريخ نشرها، كان 29 سبتمبر.
وما كان يتوقع أن يعتلي هذا المنصب في يوم من الأيام، قال الخضر لخلصائه “لقد سقطت المشيخة في حجري من حيث لا أحتسب”.

كان للشيخ الخضر حسين أثرا كبيرا في الأزهر الشريف بعد توليه المشيخة فقد كان صادعا بالحق ولا يخشى في الله أحدا وتصدى لكثير من الدعوات الهدامة، وكان قوله دائما: “إن الأزهر أمانة قي عنقي، أسلمها حين أسلمها موفورة كاملة، وإذا لم يتأت أن يحصل للأزهر مزيد من الازدهار على يدي، فلا أقل من أن لا يحصل له نقص”.
كما كان يردد: “يكفيني كوب لبن، وكسرة خبز، وعلى الدنيا بعدها العفاء”. 
ولم يلبث الشيخ الخضر أن قدم استقالته من مشيخة الأزهر في 7 يناير 1954م، وتم في نفس اليوم تعيين الشيخ عبد الرحمن تاج المولود بمحافظة اسيوط شيخًا للأزهر الشريف في 7 يناير 1954 والحاصل على درجة الدكتوراة في الفلسفة وتاريخ الأديان من جامعة السوربون  والذي قرر تدريس اللغات الأجنبية في الأزهر، كما سعى إلى بناء مدينة البعوث الإسلامية لسكنى الأزهريين المغتربين من أبناء العالم الإسلامي.
ومن المواقف التاريخية العجيبة للإمام الأكبر الشيخ الخضر حسين أنه لما تولى مشيخة الأزهر كتب استقالة غير مؤرَّخة من صورتين، احتفظ بإحداهما في مكتبه، وأعطى الأخرى للشيخ بسيوني مدير مكتبه، وقال له: “إذا رأيتني ضعيفًا في موقف من المواقف فابعث بالصورة التي معك إلى المسؤولين نيابةً عني، وهذه مسؤوليتك أمام الله”. 
وقد أعطى الشيخ الخضر المنصبَ حقَّه من الرعاية والتكريم، فما كان يتذلل أمام حاكم، ولا كان يجامل على حساب عقيدته أو دينه. 
وكان له موقف مشرف حين طلب أحد أعضاء مجلس الثورة مساواة الجنسين في الميراث، ولما علم الشيخ بذلك أنذرهم إن لم يتراجعوا عن هذا فسيلبس كفنه، ويدعو الشعب إلى زلزلة الحكومة والقيام عليها لاعتدائها على حكم من أحكام الله.
وقد كان السبب في استقالته اعتراضه واحتجاجه على اندماج القضاء “الشرعي” في القضاء “الأهلي”، وكان يقول بأن العكس هو الصحيح، فالذي يجب هو اندماج القضاء الأهلي في القضاء الشرعي؛ لأن الشريعة الإسلامية ينبغي أن تكون المصدر الأساسي للتشريع.
وبعد استقالته من المشيخة تفرغ للبحث والمحاضرة حتى لبّى نداء ربه في مساء الأحد 13 من رجب 1377هـ – 28 من فبراير 1958م.

محمد الخضر حسين وكتاب في الأدب الجاهلي


وحينما ظهر كتاب علي عبد الرازق “الإسلام وأصول الحكم” الذي أحدث ضجة كبيرة في العالم الإسلامي، لأنه خالف ما أجمع عليه المسلمون في أمور كثيرة، وعلى الرغم من أن الشيخ الخضر كان صديقا لأسرة عبد الرازق، إلا أنه عندما تلقى نسخة من الكتاب هدية من المؤلف، وما أن قرأه حتى غضب لله وللحقيقة، ولم تَحُل صداقته لآل عبد الرازق بينه وبين أن ينتقد الكتاب ويبرز ما فيه من أخطاء، فتفرغ لنقضه فقرة فقرة، وأصدر كتابه القيم “نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم”، فنفذت طبعته في شهر واحد لشدة الإقبال عليه. 
وفي العام التالي أصدر طه حسين كتابه المثير للجدل “في الشعر الجاهلي” الذي زعم فيه أن الشعر الجاهلي مختلق ومنحول، كما جاهر بالهجوم على بعض المعتقدات الدينية حيث قال: “للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، ولكن هذا لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي…”. 
فكان الشيخ الخضر رحمه الله، ممن انبرى للرد على هذا الضلال المبين، فألف كتابه “نقض كتاب في الشعر الجاهلي” فند ما جاء في كتاب طه حسين، وأقام الأدلة على أصالة الشعر الجاهلي، وكشف عن مجافاة طه حسين للحق، واعتماده على ما كتبه المستشرق الإنجليزي “مرجليوث” دون أن يذكر ذلك. 
مؤلفاته
ألف الشيخ الخضر عدة مؤلفات نذكر منها: “رسائل الإصلاح”، في ثلاثة مجلدات، أبرز فيها منهجه في الدعوة الإسلامية، ووسائل النهوض بالعالم الإسلامي. الخيال في الشعر العربي. القياس في اللغة العربية. ديوان شعر “خواطر الحياة” نقض كتاب الإسلام وأصول الحُكم. نقض كتاب في الشعر الجاهلي. آداب الحرب في الإسلام. أبحاث ومقالات عديدة نشرها في مجلة الأزهر (نور الإسلام)، و”لواء الإسلام”، و”الهداية الإسلامية”، وغيرها.
 

الجريدة الرسمية