رئيس التحرير
عصام كامل

وداعا صديقي النبيل

كما لو كان شعاع شمس قد سرى من بين كثيف السحاب ليمضى بدفئه في بدن الحياة الباردة.. كما لو كان نسمة شمالية هبت على أهل الجنوب في يوم قائظ مرير.. كان هو دائما.. كان هكذا الفجأة المدهشة. يوقظ النائمين فجرا ليتحلى بثيابه المنمقة ويمضى في الطرقات ندى البشرة صبوح الوجه حتى يصل إلى بدء تجربته اليومية في مكتب النائب العام.. يصل في السابعة صباحا.


يجمع ما يتاح له من أوراق سينسج منها قصته الخبرية اليومية بأوراق ثبوتية ولغة شقية وعبارات قانونية لا تترك مساحة للخلط أو الإساءة ولا تترك مساحة للخيال فقد كان هو الخيال والحقيقة، في الثامنة صباحا يخرج من مكتب النائب العام إلى نيابات مصر يجمع منها ما يحلو له من أوراق وقصاصات وتحقيقات سيطل بها على قرائه من نافذة النشر التي تنتظر درره وكأنها نبتة تنتظر الغيث.

رحيل هادئ


يصل عاطف فاروق الصحفى النابه إلى مقر عمله في الحادية عشرة صباحا ليتعاطى فنجانا من الشاي وينشر بين زملائه في صالة التحرير كل مساحات التفاؤل والحب والإنسانية. يجمع عاطف فاروق من جيرانه وزملائه وكل من يعرف ومن لا يعرف حاجاتهم في المصالح الحكومية ليعود ظهرا يحقق منها ما يستطيع.. يحل العقد المستحيلة بفضل علاقاته التي ابتناها طوال عمره الصحفى بالثقة اللامتناهية.


يخوض معاركه ضد الفساد والمفسدين دون كلل أو ملل، وكم من تهديدات تصل إلى عقر داره وهو القوي الأمين، لا يلين ولا يستكين ولا يهون ولا يضعف. كان وحده كتيبة من المقاتلين، وعلى مدار ثلاثين عاما لم يسقط عاطف فاروق في بئر الحاجة أو الميل أو الضعف أو الوهن، كان أبيا عزيزا يقاتل من أجل الحق والحقيقة.


وكانت حقيبته التي شهرت بين زملائه هي السر الكبير، أوراق القضايا الكبرى تسكن فيها، وطلبات الضعفاء تسكن فيها، وكل مراكز القوى تسكن فيها، وكل الحقيقة تسكن فيها. كان عاطف فاروق صديقا لقامات القضاء العالية وكان صديقا لحارس العقار والساعي في المكتب وكمسرى الأوتوبيس وبائع الصحف ووزراء ومدراء وعلية القوم.


يشكو عاطف فاروق من ألم أقلقه في الظهر، يعاود الطبيب، يكتشف المأساة، بؤر سرطانية تغلغلت في الظهر ومناطق أخرى، وما بين الاكتشاف والرحيل ثلاثون يوما يقضيها صابرا محتسبا. وقبل أن يغادر بليلة يطلبنى للقاء هام، ألملم نفسي المرتعبة خوفا عليه، أصل إلى غرفة العناية المركزة، يصحو عاطف فاروق من رحلة الغيبوبة ليطل بنفس الوجه الصبوح ويفيض بما أفاض.

 


تنكمش الذاكرة وتضيق فلا تحتوى إلا ما كان بيننا، تتداعى الصور على لوحة العقل الرافض لفكرة الرحيل وتتمدد ضحكات الوجه البرئ فتشكل قصصا من الشجن والألم والذكريات. أعود إلى منزلى وعلامات الرضا التي اكتسى بها وجهه تداعبنى حتى الفجر.. أدعو له بالرحمة.. يغادر الأرض إلى الأبد السرمدي تاركا لنا من الذكريات ما نعيشه حتى نلقاه.. وداعا صديقي النبيل.

الجريدة الرسمية