رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

كوب لبن لكل طفل.. حلم زعيم ونهضة أمة

في لحظة استوقفني إعلان قديم من الستينيات (وما أدراك ما عظمة الستينيات)، وهذا الإعلان كان عبارة عن لوحة كتب في أعلاها بالبنط العريض: "لبن مصر المبستر مضمون ومتوفر الآن"، وببنط أصغر: "مقوي ومغذي للأولاد" وفوق رسم زجاجة ممتلئة باللبن عليها شعار مصر للألبان كتب:" نصف الكيلو 35 مليما"، وبجوار الزجاجة جاء ما يلي: "لاحظ على الزجاجة الغطاء الأزرق وتاريخ اليوم"، وفي جهة من اللوحة الإعلانية كتب: "يباع في جميع محلات البقالة الكبرى"، وبجوار الزجاجة رسم طفل وخلفه طفلة تشير إلى عضلات ذلك الطفل.      

استرجعت لحظات من زمن جميل عايشته مع تلك الزجاجة المميزة، والتي كانت ترجع فارغة للبقال ليعيدها للمصنع مثل زجاجات المياه الغازية وقتها، استمر استغراقي في تلك اللحظات لاسترجع معلوماتي عن تلك الشركة العملاقة التي هوت، وكان اسمها شركة مصر للألبان والأغذية، فبعد ثورة يوليو المباركة العظيمة، أو الحركة المباركة كما أطلق عليها بداية في  23 يوليو 1952 انطلقت مصر في نهضة صناعية لم تشهدها في تاريخها كله على مر الأزمان، ولا حتى في أزهى عصور محمد علي..

 

فقد كان الحلم الكبير لدى الزعيم جمال عبد الناصر أن تبنى مصر الحديثة بسواعد أبنائها ليعم الخير مباشرة على أهل مصر جميعا سواسية، لا فرق بين غني أو فقير، وكبير أم صغير، ومسئول أو غير مسئول، فالجميع سواسية في الأعباء والحقوق، بل كانت النظرة الشاملة أن يتحمل أعباء نهضة الوطن الأثرياء الذين أثروا من دم هذا الشعب، وبالفعل أدى هؤلاء الأثرياء ضريبة نهضة الوطن، وقام أبناء الوطن بالعمل الجاد من أجل أن يكون لمصر مكانا بين الأمم العظمى، فتحولت مصر إلى نهضة صناعية شهدت إنتاج سيارة ملاكي من ماركة رمسيس كانت تباع ب 200 جنيه، وكانت مكوناتها المحلية تتعدى 80 %، كما شهدت مصر القيام بمشروعات عملاقة كبرى مثل السد العالي الذي أمد مصر وللآن بالكهرباء، وحمها بفضل الله وللآن من أخطار الفيضانات التي تضرب إثيوبيا والسودان وغيرها من البلدان للآن بالفيضانات، وكانت تحدث في مصر قبل إنشاء ذلك السد النعمة من الله على يد الزعيم جمال عبد الناصر.

 شركة مصر للألبان

 

 ومع هذه النهضة الصناعية الكبرى لاحظ الزعيم جمال عبد الناصر أن الكثير من أطفال مصر وأبنائها في حاجة إلى بناء عظام قوية وصحة جيدة، فراح يحلم بأن يجد كل طفل يوميا كوبا من اللبن الطازج، لكن كيف يحدث ذلك دون أن يكون هناك صرح وطني عملاق يجمع الألبان من الأرياف ليعيد ضخها في شرايين المصريين بكل أمان وسهولة؟ فجاءت فكرة تأسيس شركة مصر للألبان التي بدأت بمصنع ضخم فى منطقة الأميرية، وكان الهدف من الشركة كما أعلن وقتها إنتاج وتجميع اللبن وبسترته وتجارته، والقيام بصناعة منتجات الألبان المختلفة من الجبن بأنواعه، والزبادى حتى الأيس كريم، وفى عام 1973 كانت الشركة قد وصلت بخدماتها ومصانعها ومراكز التجميع والتوزيع لجميع مناطق مصر، وكانت المصانع قد أصبح عددها 9 مصانع فى القاهرة والإسكندرية ودمياط والمنصورة وطنطا والإسماعيلية وكوم أمبو وسخا، بالإضافة لمركز التدريب الوطنى بالإسكندرية، وهو المركز الوحيد من نوعه فى الشرق الأوسط. 

وكانت «مصر للألبان والأغذية» قلعة صناعية ضخمة تنتج كل ما تحتاجه مصر ومؤسساتها  من ألبان ومنتجاتها، خاصة بعد أن أصبحت تضم المصانع التى تم تأميمها فى الستينيات ومنها مصنع (سيكلام) أحد أقدم مصانع الألبان فى مصر، كما تم تجهيز 60 مركزا تتولى تجميع الألبان من جميع مناطق مصر من الفلاحين ومنتجي الألبان ليتم نقلها إلى مصانع الشركة عبر أسطول ضخم من السيارات المجهزة بأحدث التقنيات، والتى تم استيرادها من الخارج وكان بعضها يقوم بعمليات البسترة والتعقيم أثناء رحلة النقل وكانت النتيجة زجاجة اللبن الشهيرة التي عرفها الشعب المصرى كله منذ نهاية الستينيات وحتى نهاية الثمانينيات بخلاف المنتجات الشهيرة للشركة من الأجبان.

 الخصخصة وحلم الزعيم

وظل الحلم واقعيا ويؤدي مهمته في إنشاء شباب قوي حتى ظهرت سياسة الخصخصة اللعينة التي كان الهدف منها القضاء على كل منجزات ثورة الشعب في 1952، ويشهد عام 1996 أولى خطوات تصفية شركة مصر للألبان مع ظهور بعض شركات القطاع الخاص الكبرى، فتم إيقاف مصنع ألبان طنطا وخروج العاملين به للمعاش المبكر، وبيع الأرض الخاصة به لهيئة الأبنية التعليمية فى صفقة مريبة. 

وبعد أقل من عامين تكرر الأمر فى مصنعى الإسماعيلية وسخا حيث تم إغلاقهما وتحويل مصنع الإسماعيلية إلى مخزن معدات، وماكينات مصنع سخا الذى تم بيعها باعتباره أرض فضاء. أما المصنع الذي تم بيعه بالكامل بما عليه من معدات فكان مصنع (سيكلام) والذي تعتبر القيمة الذي بيع بها مهزلة حقيقية، فقد بيع المصنع فى أكتوبر عام 1998 لرجل الأعمال يوسف منصور صاحب شركة المنصور بنحو 20 مليون جنيه فقط لا غير، وبعد بيع مصنع (سيكلام) لم يكن قد تبقى قيد التشغيل سوى ثلاثة مصانع فقط هي (القاهرة دمياط المنصورة).

 

وبالنسبة لمصنع دمياط فقد تم تسليمه للبنك الأهلى وبنك مصر فى إطار صفقة أشارت فيما بعد الشركة القابضة إلى أنها استخدمتها لسداد ديون وخسائر الشركات التابعة الأخرى، وهو ما تم مع مصنع المنصورة الذي بيع بأبخس الأثمان في صفقة مريبة جدا، وفي عام 2014 درست الحكومة إعادة شركة مصر للألبان بالقاهرة لعملها من خلال إسنادها للقطاع الخاص مع الحكومة، لكن كل ذلك توقف تمام ليأتي عام 2020 الذي شهد استكمال الشركة القابضة للصناعات الغذائية التابعة لوزارة التموين والتجارة الداخلية، تصفية شركة مصر للألبان والأغذية، بطرح مزاد علنى لبيع خطوط الإنتاج القديمة بغرض ضم المقر البالغ مساحته 42 ألف متر للقابضة، ودراسة استغلاله بشكل اقتصادي، فتم القضاء نهائيا على حلم الزعيم.

Advertisements
الجريدة الرسمية