رئيس التحرير
عصام كامل

رجل بعينين في قفاه

«أنت لا تعرف ماذا يدور من وراء ظهرك»، جملة سمعها محروس الدكر لأكثر من مرة، ومن أكثر من شخص، فكثير من الناس يصفونه بالرجل الجاف، الذي لا تعرف المشاعر طريقا إلى قلبه، إذ أنه يتعامل مع الجميع بطريقة جامدة وكأن صدره لا يحوي قلبا.

محروس الدكر، والاسم الأخير مكتسب، بل لنقل إنه منحه لنفسه، كي يثبت للعالم أنه رجل شديد البأس والفأس، وكلمة فأس هنا ليست من أجل السجع، فصاحبنا مزارع يمتلك من الأطيان عشرة أفدنة لم تعد تجود عليه بذلك الخير الذي كانت تمنحه إياه في الماضي، وهو يعلم جيدا أن الأرض باتت تقسو عليه غضبا من تصرفاته مع الجميع..

 

نعود لنقول إن محروس الدكر رجل عادل، وعدله يظهر في أنه يعامل الجميع بغلظة، ولا نستثن من الأمر عائلته، فهو يتحدث إلى زوجته وكأنها خادمة، أما أبناؤه فيعاملهم معاملة العبيد، وقس على ذلك باقي الناس، فلن يكون غريبا إذا شق أحدهم صدره ليجد مكان قلبه قطعة من الفحم الحجري، والتي تكفي لإشعال أحد أفران شركة الحديد والصلب – رحمها الله وطيب ذكراها– لعامين دون توقف..

 

في أحد الأيام الغبراء، وقف السيد دهشوري، بقال القرية الوحيد، في وجه محروس الدكر، وصاح فيه «علي الطلاق أنت لا تعرف ماذا يدور من وراء ظهرك».. فرد عليه محروس الدكر: «وماذا يدور من وراء ظهري يا فالح؟». لم يعاود السيد دهشوري الكلام، بل ترك الدكر يتقلب في حيرته كما يتقلب السمك المقلي في الزيت، ما دفعه لأن يبحث عن فكرة تمكنه من أن يرى ما يدور وراء ظهره..

 

في البداية، تخفى محروس الدكر في هيئة امرأة كي يتلصص على الناس ليعرف ما يقولونه عنه، غير أنه سرعان ما انكشف، فرائحته الغبية، والتي تشبه الفحم الحجري المحروق، لا يمكن لأنف أن يخطئها، فمثلا حين تخفى وذهب لمحل سالم أبوعرجون المتخصص في تصليح أجهزة الراديو القديمة، حاملا جهاز ترانزيستور صغير بحجة رغبته في إصلاحه،  ورغم ترقيق صوته ليصبح مثل سرسعة الفئران، بادره الرجل صاحب الدكانة قائلا وهو يضحك «اطلع من دول يا عم الحاج.. أليس عيبا يا دكر أن تتخفى في زي الحريم؟!»..

ظهور الكائن العجيب

 

اغتاظ الدكر من انكشاف أمره فتصاعدت من رأسه رائحة الشياط، ثم عاد إلى البيت، فأخذت زوجته تضحك وكذا فعل أبناؤه، فازداد الرجل شياطا.. وفي اليوم التالي، أحضر الدكر شجرة وجوفها ثم دخل فيها متنكرا، ثم استقر في عرض الطريق كي يسمع المارة وهم يتحدثون عنه، لكنه سرعان ما انكشف كما في المرة السابقة، حتى أن العيال راحوا يحدفونه بالطوب وهم يضحكون ويصرخون «هيا اسقط لنا ثمارك أم أنك شجرة دكر؟!»..

 

جلس محروس الدكر في غرفته مهموما، بسبب انكشاف أمره وعدم قدرته على التخفي، وفجأة ظهر أمامه كائن عجيب لو رأيتموه لقلتم إنه شيطان رجيم، لكن ذلك الشك حتما سيتبدد إذا سمعتم هذا الكائن العجيب وهو يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم حين رأى محروس الدكر.. بالتحقيق والتدقيق عرفنا أن ذلك الكائن لم يكن شيطانا، بل كان ماردا أراد أن يساعد الدكر في مبتغاه، فنصحه أن يضع عينين في قفاه ويداريهما بشعر رأسه، حتى يتمكن من معرفة ما يدور خلف ظهره، إذا التفت عن فلان أو فلان..

 

وبالفعل، زرع الدكر عينين في قفاه وخبئهما خلف خصلات شعره الطويل المتدلية حتى كتفيه، وراح يختبر الأمر مع زوجته، إذا أنهما كانا في غرفة نومهما وبعد أن صرخ فيها لتحضر له حذاءه، أدار لها ظهره وابتعد ثلاث خطوات، فرآها بعينيه المزروعتين في قفاه وهي تمط بوذها وتتقصع مقلدة إياه وهو يشخط فيها وينطر، ثم لاحظ بعض الدموع تسيل على خديها قبل أن ترفع يديها وهي تمتم بكلمات استطاع أن يفهمها من حركة شفتيها إذ كانت تقول «روح إلهي تنسخط قرد يا بعيد»..

 

خرج محروس الدكر من غرفته، وفي الطريق المؤدي إلى باب البيت، صادف أحد أبنائه فصرخ فيه مؤنبا ثم تركه ومضى في طريقه، فلاحظ الطفل وهو يبكي ويدعو عليه بالدعوة ذاتها التي قالتها زوجته، فراح يفكر في أي أمر ذلك الذي يجعل طفلا  يدعو على أبيه، ثم مضى إلى خارج المنزل.. وفي الطريق، والحانة، والدكانة، وكل الأماكن، صادف الكثير من الناس، الذين كانوا يسارعون بالدعاء عليه بأن يسخطه الله قردا..

 

تعب محروس الدكر، فجلس على صخرة، وراح يحاسب نفسه ويسترجع ما حدث في ذلك اليوم، فتيقن أن كل الناس في هذه القرية بلا استثناء يكرهونه ويدعون عليه بأن يسخطه الله قردا..

حكاية القرد الضخم

 

في اليوم التالي، بحث الناس عن الدكر فلم يجدوه وجدوا قردا ضخما يجوب الأنحاء، فعلموا أن الله قد قبل دعاءهم وتوسلهم، وسخط الدكر قردا.. في البداية تعامل الناس مع القرد بخوف، ثم حذر، ثم سرعان ما باتوا يستلطفونه أو ربما شعروا بالتعاطف معه، فهو في الأول والآخر رجل مسخوط، وهم سبب لعنته أو ربما هو سبب لعنته لكن دعاءهم كان بابا للعنة..

 

تسابق الناس على إحضار الموز للقرد، ومنهم من كان يأخذه في نزهة، وآخر يحممه، وثالث يلاعبه.. ورابع وخامس وعاشر.. حتى أن البعض منهم كان يعطيه النقود المعدنية كنوع من الصدقة، وصارت الأمور على هذا الحال أسبوعا ثم شهرا وأعوام..

 

وفي أحد الأيام جاء رجل إلى القرية، وراح يسأل عن محروس الدكر، فقال له الناس إنه انسخط قردا، ثم أحضروا القرد، والذي حين رأى الرجل الغريب أخذه بالحضن، فاندهش الناس وسألوا ضيفهم عن سر العلاقة بينه وبين القرد المسخوط، فضحك الرجل الغريب وقال إن ذلك القرد قرد حقيقي وليس مسخوطا، وأن محروس الدكر اشتراه منه قبل أعوام..

 

تيقن الناس من أن محروس الدكر ضحك عليهم جميعا، خاصة بعدما علموا أنه كان يأتي كل ليلة متخفيا كي يأخذ ما جمعه القرد من موز ومال، ذلك المال الذي اشترى به قصرا في المدينة القريبة من القرية، وبات أحد أكبر تجار القرود في الدولة كلها.

الجريدة الرسمية