رئيس التحرير
عصام كامل

الأشباح تتأخر دوما

أفلت يدي من يد جدي وانحنيت لأحمل حجرا صغيرا كي أرجم به الشبح الذي يسكن ذلك القصر المهجور الذي نمر به يوميا في طريق عودتنا من المسجد إلى بيتنا، فأمسك جدي يدي وسألني مستنكرا عما سأفعل فرفعت كتفي وأنزلتهما وأنا أمط شفتاي..

 

«سترجم الشبح.. أليس كذلك؟» هززت رأسي مجاوبا جدي، فتبسم في هدوء، وأخذ من يدي الحجر ثم وضعه إلى جوار سور القصر، وجلس في ظله مشيرا إلي كي أجلس، ففعلت..

 

«كنت أظنك غير هؤلاء الصغار» قالها جدي وهو يخرج من جيبه علبة دخانه وراح يضع التبغ بعناية في ورقة رقيقة، ثم لفها في راحة يده وبللها من ريقه ليحكمها سيجارة قصيرة أشعلها بعود ثقاب وراح ينفث نصف دخانها في الهوء، بيما يحبس النصف الآخر في جوفه.. «هل تعرف حكاية القصر المهجور يا بني؟» لم يكن جدي يسأل بل كان يشرع في قلبي نافذة كي أصغي إلى حكايته.. هكذا عادته.

 

«قبل أن يولد والدك بأعوام، لم يكن هذا القصر المهجور سوى شابة جميلة ليس في حسنها أحد.. الجميع كان يريد التقرب إليها، لكن قلبها الصغير لم يدق لأي منهم، فراحوا يشيعون حولها الأكاذيب، تارة يقولون مسحورة، وتارة يقولون أغواها الشيطان، وفي حكاية ثالثة وليست أخيرة يقولون إنها الشيطان ذاته..

وأخيرا، دق القلب فأحبت رجلا كما لم تحب فتاة رجلا في هذه الدنيا.. كان بسيطا رقيق الحال غير أنها عشقت النور في عينيه، وكذا أحبها هو فتعاهدا على البقاء معا للأبد.. ارتدت فستانا أبيض.. وانتظرته، لكنه لم يأت.. ربما صدق فيها حكايات الناس، وربما خاف الاقتراب منها.. تعددت الأسباب، والنهاية واحدة.. لم يأت.. يوما بعد يوم، طال الانتظار إلى أن جفت هي كورقة تمردت على الخريف ولم تسقط على الأرض، بل بقيت متشبثة بالغصن..

 

إلى أن وهنت فعصفت بها الريح ووقعت على الأرض، التي ابتلعتها في جوفها، وهناك نبتت من جديد، وشقت الأرض شجرة عفية، ثم تحولت إلى قصر كبير، لكنه مهجور، في انتظار ساكنه الوحيد، ذلك الساكن الذي لم ولن يأت أبدا.. ومذاك والناس ينسجون القصص حول المبنى العتيق كخيوط العنكبوت.. تماما مثلما فعلوا حين كان القصر فتاة في حياتها السابقة». أنهى جدي قصته مع أخر نفس في سيجارته القصيرة، وأخرج من جيبه صورة قديمة لحسناء لم يزدها قدم الورق سوى سحرا وجمالا فوق جمالها، فقبلها، وأسند رأسه إلى كتفي الصغير وغاب في رحلة لا عودة منها..

 

بعد سنوت دخلت القصر المهجور.. كان الرعب صديقا لي في رحلتي إلى المجهول.. وكنت كلما ارتفع صوت الريح أتدثر برداء جدي وأحكمه حول جسدي. وفي الداخل رأيت صورة قديمة لجدي تعلو الحائط المواجه لباب القصر المهجور من الداخل.. لقد كان جدي ذلك الساكن الذي لم يأت في الموعد.

 

رجل بأنف كبير

 

هذا الصباح، سأل العصفور الأخضر وردة حمراء عن سر الرجفة التي تعتريها كلما مر ذلك الرجل صاحب الأنف الكبير مخترقا البستان في طريقه إلى المذبح. قالت وورقاتها تتكسر كلوح زجاج مصلوب تحت الشمس، إنها رأت رفيقاتها وهن يُسحقن تحت أنفه الضخم..

 

لم يكن الرجل الغليظ يسلبهن العطر فحسب، بل كان يلتهم ألوانهن الزاهية في تلذذ، ثم يمسح أرنبة أنفه ويعطسهن شظايا تتطاير في الأفق بسرعة حتى ترشق تلك الشظايا في ساق الشجرة الأم.. وفي كل مرة كانت الشجرة تنزف حبًا يسيل على جزعها، ثم يسير في خطوط طويلة ليسقي الوردة الملقاة على الأرض كجثة بلا رائحة ولا ألوان، لترتد إليها الروح مرة أخرى..

 

لكن الوردة التي تعود للحياة، لم تكن لتفرح بذلك، إذ كانت تصطف في الطابور مجددًا وهي محنية الأوراق، في انتظار دورها بين باقي الوردات، حيث يعود الرجل صاحب الأنف الكبير ليقطف من بينها واحدة جديدة فيبتلع رحيقها وألوانها، ويعيد الكرة مرة ومرة.. وألف مرة.. بكى العصفور حتى بللت دمعاته أوراق الوردة، ثم انحنى يحمل بمنقاره حبات الطين ويلقيها عليها، حتى إذا مر الرجل صاحب الأنف الكبير لا يراها. مر الرجل فالتقط وردة أخرى ومضى.. حينها أسرع العصفور يزيح الطين عن وردته الحمراء، غير أنه لم يجدها.. لقد ذابت في الأرض.

الجريدة الرسمية