رئيس التحرير
عصام كامل

٣ يوليو.. معارك وحصاد ومراجعة

من قصة الفلاح الفصيح الاهناسى الذى عاش فى القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد "أن العدالة خالدة الذكرى، فهى تنزل مع من يقيمها إلى القبر.. ولكن لا يُمحى من الأرض، بل يذكر على مر السنين بسبب العدل". سنوات ليست بالقليلة تلك التى مضت على هذه المشاهد الحية التى لا تزال تعيش فى الذاكرة حية، بما كانت تحمل من مضامين الفرقة والتشتت واكتساء وجه مصر الحضارى بكل ألوان العبث الفوضاوى المدهش.


لم يكن الفلاح منشغلا ببذرة تركها فى باطن الأرض لينتظر متى تطل برأسها الأخضر اليانع علامة على الحياة، ولم يكن العامل فى مصنعه مشغولا بالوقوف أمام آلته يدفعها دفعا ليخرج من رحمها منتجًا جديدًا للناس، ولم يكن المحامى مشغولا بغير ما تنبئ به الأيام من حالة اختطاف واغتصاب لبلد تمتد جذور استقراره فى عمق التاريخ.

اختطاف الوطن 
ولم نكن نحن أصحاب الكلمة مهمومين إلا بمواجهة من نوع خاص ينطلق فيها القلم فى معركة مع الظلام القادم عبر جماعة الإخوان وأتباعها والمتعاطفين معها.. كان القتلة فى الصفوف الأولى، وكنا مطاردين فى الحوارى من جماعات العتمة المنتشرين على نواصى الصلف والظلم والعنف.. لم تكن مصر التى عرفناها وولدنا فيها وعشنا وتربينا على ترابها كما كانت، كانت الأصباغ التى حملها محتل وطنى شاذ تعيد تلوين اللوحة الوطنية بألوان لم نعهدها من قبل.

سطورنا نكتبها تحت تهديد التكفير، وأفكارنا نطرحها تحت وطأة السيف، ويطارَد أبناؤنا من الشباب فى الحوارى والأزقة بتهمة معاداة جماعة الإخوان، وكانت الجماعة هى البديل الذى جاء ليحل محل الوطن.

مفردات جماعة الإخوان وتوجهاتها جمعتنا نحن المتناقضين والمتنافرين وأحيانا المتعاركين.. جمعنا إحساس الاغتراب، ووحدتنا غربة سرت فى نفوس الناس، فكان لابد لنا من عودة واستعادة.. عودة إلى وطن أقدم من كل الجماعات، واستعادة الدفء وتحرير هذا البلد من مختطفيه.

ونزلنا إلى الشوارع الكَرَّة بعد الكرَّة، ليبراليون وناصريون وشيوعيون ولا منتمون، فلاحون وعمال وطلاب، أغنياء وفقراء وبسطاء، شباب وشيوخ ونساء ورجال.. نزلنا جميعا نحمل العلم.. علم مصر لا علم الجماعة.

بالطبع لم يكن الجيش بعيدا عن تلك الململة فهو التنظيم الوحيد الذى ظل باقيا على مفردات تكوينه، جيش لا يعرف الحزبية ولا التحزب، وحتى الجيش كان ملفا من ملفات الجماعة لتغيير عقيدته وإحلال الميليشيات محله.

سقطت جماعة الإخوان
كان الخراب على الأبواب يطرقها، وفى الداخل من يستعد لفتح البوابات كلها أمام الطوفان.. كانت أقدم البلاد فى خطر.. كان فجر الضمير مهددا، وكانت إمبراطوريات العالم الحديث تنتظر لحظة السقوط.

ووسط كل هذا الغم والهم واختلاط الحابل بالنابل شعب يعرف تاريخه كما يعرف المرء ابنه، خرج الشعب معلنا التحدى، تحدى الاحتلال الجديد وأعوانه من الخارج والداخل فكانت ثورة باركها الجيش وحماها، وجاءت لحظة الاختيار.

وكان المشير عبد الفتاح السيسى هو الرمز المطروح من معظم القوى. دعا بعضُنا إلى الصبر على الإخوان لثلاث سنوات أخرى ثم إزاحتهم، غير أن هذا الفريق وجد أن التغييرات المتلاحقة تنذر بكارثة!

سقطت جماعة الإخوان، واختار الشعب رئيسه، ومضت السفينة تتهادى بين الأخطار، وربانها يرغب فى إنهاء المواجهة لصالح الوطن، والتف الشعب من حوله، وجرت فى المياه أمور متشابكة ومعقدة، وصرنا محاصرين من الخارج، ومؤامرات في الداخل.. وأخيرا وبعد تضحيات مذهلة انتصرنا.

لم يكن المحيط الجغرافى والسياسى سهلا أو ناعما أو راضيا.. كانت الخريطة تتغير من حولنا، وتعيد القوى الدولية تمركزها وتموضعها، ولم يكن الانكفاء حلا مقبولا.. كان لا بد من الاشتباك.. الاشتباك فى ظل هذا الوضع السرابى المهلهل.. واشتبكنا وحافظنا على بقائنا وفق مصالحنا.

الحريات المنضبطة
اختفت من على الساحة قوى كان لابد وأن تختفى، واختفت قوى أخرى لا نتصور أن غيابها فى صالح الوطن، غير أن الظرف فرض علينا غيابات كثيرة.. غيابات لقوى ولمفاهيم وقضايا ملحة.

وبعد سنوات الحرب التى حققنا فيها ما لم نحققه فى سنوات السلم.. أعدنا بناء الجيش، وعكفنا على تشييد بنية أساسية خارج إطار التوقع والتصور، وأصبحنا رقما مهما، واستعدنا دورا كان من المخطط له إسناده لقوى أخرى فى المنطقة وخارجها.

والآن وجب السؤال: هل نحن بحاجة إلى تغيير فى نمط الإدارة والتشارك من أجل المرحلة القادمة، أعتقد -ويدعمنى غيرى- أن المرحلة القادمة بحاجة إلى انفتاح على ملفات فرضت علينا ظروفنا السابقة إغلاقها.

أول الملفات أننا بحاجة إلى حوار وطنى يضع الجميع أمام مسئولياتهم الوطنية، مع انفتاح فى ملف الحريات المنضبطة، وإمكانية وضع أسس ومعايير تتطابق مع ظروف المرحلة.

هناك قوى مختفية لا بد من استعادتها أو عودتها، وقليل من الحريات يمنح الإدارة حيوية تنقصها فيما هو قادم من أيام، مع تحمل الجميع مسئولياته الوطنية فى البناء، وتحقيق قفزة تتناسب مع ما حققناه خلال السنوات السبع الماضية، فالحرية والمشاركة أهم أسس العدل.
الجريدة الرسمية