رئيس التحرير
عصام كامل

رحلة الحمار

يبدو أن كثيرا من القائمين على أمر الإعلام فى هذا البلد، قد عقدوا العزم على تسطيح وتمسيخ وتغييب هذا الشعب، بالتركيز على كل ما هو تافه وعبثى وخال من المضمون، استنادا إلى تربية مهنية ضعيفة ومغلوطة، لدرجة أنهم باتوا لا يعنيهم الجرم الذى يرتكبونه بحق المجتمع، بقدر اهتمامهم بكم القراءات والمشاهدات.


فمنذ أيام، صنع إعلامنا المبجل من قصة تافهة، بطلها شاب صعيدى يدعى "بهاء العمدة" قضية رأى عام، على الرغم من أنها لا تتعدى "شو تافهه" أراد بها الشاب أن يجذب إليه الأنظار، فوجد نفسه دون مقدمات يتم تقديمه فى صورة "الفاتح والمكتشف المغوار" مما أجبر عددا من أجهزة الدولة علي التدخل.

وقد بدأت القصة التافهة بفكرة طرأت على بال الشباب، بأن يركب "حمارا" وينطلق به فى رحلة تمتد نحو شهر، تبدأ من محافظة الجيزة مرورا بكل محافظات الصعيد، وصولا إلى محافظة أسوان، للقيام بجمع تراث وعادات وتقاليد ولهجات تلك المحافظات.

شنطة سعدية

وعلى الرغم من أنه لا علاقة لـ"صاحب الحمار" بالتراث أو الموروث الشعبى، وسذاجة تصريحاته التى تؤكد عدم إدراكه لكيفية أو طرق القيام بمثل هذه المهمة، إلا أن الإعلام المصرى المستنير، انتفض فجأة، وحول "الحمار" وصاحبه إلى "حدث" مما دفع أجهزة الأمن بمحافظة المنيا إلى إلقاء القبض على "العمدة والحمار" والتحفظ عليهما داخل نقطة شرطة بإحدى قرى مركز سمالوط، للتحقق من ماهية الرحلة والغرض منها، خاصة بعد رصد تجمعات كبيرة من المواطنين حوله.

وعلى الرغم من إفراج أمن المنيا عن "الحمار" وصاحبه، بعد التيقن من تفاهة القصة، إلا  أن استمرار الإعلام فى متابعة الرحلة "المباركة" دفع العشرات من "جمعيات الرفق بالحيوان" فى مصر إلى الدخول على الخط، والتنديد بقوة بما يتعرض له "الحمار" من ظلم وقسوة ومشقة خلال الرحلة، التى اعتبروها لا تتماشى مع تعاليم الرفق بالحيوان التى أوصت بها الأديان السماوية.

ووصل حد الغضب بجمعيات الرفق بالحيوان، إلى مطالبة الدولة بالتدخل لحماية "الحمار" لصعوبة توفير ما يمكن أن يتناوله من طعام فى تلك الطرق، أو حتى فى الاستراحات التى يفصل بينها مسافات كبيرة، متهمين "صاحب الحمار" بأنتهاك القوانين والتعاليم الدينية، والمطالبه باستحداث تشريعات تمنع مثل هذه التجاوزات بحق "الحمار".

وزادت أزمة "الحمار" اشتعالا مع استمرار الإعلام بمتابعة الرحلة "الميمونة" وتناولها بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، ووصول الأمر إلى حد "تحريم" استخدام "الحمير" كوسيلة مواصلات خلال تلك الرحلات الشاقة.

حكومة "كله تمام"

وارتفعت حدة أزمة "الحمار" اشتعالا، مع دخولها مرحلة "الفتوى" مما دعا "الأزهر الشريف" إلى التدخل على الخط، مؤكدا على لسان الدكتور "أحمد كريمة" أن السفر بـ "الحمار" لمسافات بعيدة يجوز شرعًا، وأن الدواب كانت تستخدم فى السفر فى عهد الرسول محمد صلي الله عليه وسلم، وقد منحها الله من القوة ما يجعلها تستطيع تحمل مشقة السفر والاوزان الثقيلة، استنادا إلى قول المولى عز وجل فى كتابه الكريم: "والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة، ويخلق ما لا تعلمون" بل واتهام من يدّعي مخالفة رحلة "الحمار" لحقوق الحيوان بـ "الجاهل" بالأحكام الشرعية.

للأسف هكذا صنع الإعلام من "الحمار وصاحبه قصة بلا قصة، دون أن يكلف نفسه تجاهلها، أو حتى تحليل المضمون التافهه الذي أطلقه "صاحب الحمار" قبل النشر، ولاسيما وان الثراث والموروث الشعبي"علم" يجمعه ويدرسة علماء متخصصون يعج بهم "معهد دراسات الفنون الشعبية" الذى قد تحتاج بعثاته لجمع تراث محافظة مصرية واحدة، إلى شهور وسنوات من المعايشة والبحث والرصد والتتبع، للخروج بالتفاصيل الدقيقه ل "العادات والتقاليد، والازياء، واللهجات، والموسيقى، والأغانى الشعبية" وغيرها، وليس بمثل المشهد العبثى الذى أعلن عنه الشاب الصعيدي، وساق خلفه الإعلام المصرى بأثرة.

غير أن الكارثة للأسف لا تكمن فى "الحمار" أو صاحبه، ولكن فى حالة التسطيح والمسخ التى دأب الإعلام على فرضها من خلال قصص يتم نسجها من تفاهات لتغييب الرأى العام، ولتذهب مهمته الأساسية من تثقيف وتعليم وتوجيه وكشف للفساد إلى الجحيم.. وكفى
الجريدة الرسمية