رئيس التحرير
عصام كامل

أبناء نوح

أنجبت خضرة ابنها زكريا في فجر ليلة ممطرة، الذي انزلق من بطنها في مخزن وكالة أقمشة الحاج نوح، الذي أواها في ذلك المكان، بدلا من نومها على الرصيف المقابل لمحل أكل عيشه قبل ثلاث سنوات من ميلاد الطفل، الذي حمل اسم الحاج نوح. وكما كانت أمه تنظف الوكالة وتقضي احتياجات بيت الحاج، أكمل زكريا مشوارها، بعد أن رحلت عنه متأثرة بحمى أصابتها ولم يسعفها الأطباء .


كان نوح يعامل زكريا وكأنه من صلبه، حتى أنه لم يسلم من الشائعات التي ادعت زورا أن نوح هو ابن غير شرعي للحاج، وإلا لماذا منحه اسمه، ومع ذلك لم يتأثر الرجل الطيب بما كان يتردد، فالناس يتحدثون ويخوضون في الأعراض في كل الأحوال.

كلما اشتقت إلى صوت أمي

وبدوره كان زكريا يتفانى في خدمة الحاج، ولم يكن ليتوانى ولو لحظة في افتداء الرجل الطيب نوح بروحه. فطن الحاج نوح إلى أن مستقبل ذلك اليتيم في خطر ، إذا ما آلت الأمور لأبنائه من بعد وفاته، فهم قد ورثوا الجحود من والدتهم، والتي كانت ترفض بقاء خضرة قرب زوجها رغم علمها بإخلاص الحاج لها، ونبل أخلاقه التي تمنعه من استغلال امرأة مسكينة. لهذا اصطحب نوح زكريا إلى البوسطة وفتح له حسابا لتوفير بعض الجنيهات شهريا، حتى يكون لذلك المسكين مصدرا للرزق بعد وفاته.

لم يكن زكريا مجرد طفل مسكين، فقد منحه الله رجاحة عقل جعلته يقضي بعض المصالح للحاج ولأصدقائه من التجار مقابل مبالغ مالية صغيرة لكنها كانت كافية لأن تزيد من رصيده في دفتر التوفير، وهو ما شجعه لأن يشتري قطعة أرض صغيرة، كانت خرابة يلقي فيها أهالي الحي بالقمامة، وساعده في ذلك توسط الحاج لدى ورثة الأرض الذين باعوها لزكريا بالتقسيط. كبر زكريا وصار شابا، فتعرف إلى نبوية، تلك الصبية البضة التي كانت تخدم عائلة المعلم شفيق، المقيم في آخر الحي، وكان ميسور الحال.

لم يكن نوح يعلم وقتها أن علاقته بنبوية ستجلب عليه المشاكل والصراعات، إذ أن حسن الابن الأوسط للحاج نوح كان يشاغلها ليل نهار، وسبق أن تهجم عليها في مخزن الوكالة، ما دفعها لأن تشكوه إلى والده، الذي هدده بالطرد من البيت إذا ما كرر فعلته.

حين علم حسن بعلاقة زكريا ونبوية امتلأ غيظا وحقدا، وقرر أن ينتقم منهما، فاستأجر بعض النسوة اللاتي ادعين زورا أنهن رأين زكريا ونبوية في المخزن وهما عراة كالطفل في لحظة ميلاده.

دافع نوح عن زكريا، غير أن المعلم شفيق الذي تعمل لديه نبوية، وكان نسيبا لعائلة الحاج، خيره ما بين أن يبقي على زكريا أو يقوم شفيق بتطليق زوجته قريبة نوح، وما زاد الطين بلة إن أبناء الحاج وزوجته تضامنوا مع المعلم شفيق، فلم يجد الرجل بدا من أن يطرد زكريا، مودعا إياه بالدموع والحسرة. رحل زكريا عن الوكالة والحي، وحين هم ببيع قطعة الأرض الخرابة، ليتاجر بثمنها في الأقمشة، منعه أبناء الحاج، وأعلنوا أن من يشتري تلك الأرض سيصبح عدوا لهم.

الملاك الذي وخزته الإبرة

من الصفر بدأ زكريا حياته بعدما تزوج نبوية، فعمل صبيا في محل أقمشة لدى رجل يدعى فاروق، بتوصية من الحاج نوح، فيما كانت نبوية تعمل في مدبغة مجاورة. يوما بعد يوم، اكتسب زكريا ثقة المعلم فاروق، الذي رأى في صبيه الجديد ذلك الابن الذي لم يمن الله به عليه من زوجته حسنات، التي توفيت قبل ثلاثة أعوام لكنه لم يرتض بعدها امرأة أخرى.

خلال تلك الفترة، كان زكريا يتنكر من أجل زيارة الحاج نوح في الوكالة، إلى أن مرض الرجل ولزم الفراش، فقرر الصبي المخلص أن يذهب إليه في بيته ليعوده، وهناك شاهده حسن فاعتدى عليه ضربا بالسوط بينما لم يدافع زكريا عن نفسه، فقد كان يتلقى الضربات ودموع عينه تنساب كحبات المطر، وهو يطالع وجه الرجل الذي يحتضر.

مات الحاج نوح، وتسلم أبناؤه مقاليد الأمور، ولأن جميعهم مشغولون بوظائفهم الحكومية وأعمالهم الخاصة، أصبح حسن هو الآمر الناهي في تجارة المرحوم، وراح ينفق من ريعه على المزاج والكيف وقعدات الأنس، في بيت صباح القوادة التي يعرف بأمرها الجميع لكن أحدا لا يستطيع الاقتراب منها كونها محمية من ضابط كبير يلجأ إليها في كثير من القضايا وتصفية الحسابات مع الخصوم.

مرت الأيام وشقت الحكومة شارعا جديدا في الحي بمحازاة الخرابة، فارتفع سعر المتر في تلك الأرض ما دفع الكثير من أصحاب الأعمال والمصالح إلى البحث عن صاحبها لشرائها، فتواصلوا مع زكريا الذي باعها لأحد التجار الكبار والذي تعهد بإنهاء الخلافات بينه وبين حسن ابن المرحوم نوح، فحصل زكريا على مبلغ كبير مكنه من مشاركة المعلم فاروق في محل الأقمشة وتوسعت تجارته، فيما توقفت نبوية عن العمل في المدبغة بعدما رزقت بطفلها الذي اسماه زكريا على اسم الرجل الذي أواه وأمه.. نوح.

شعر المعلم فاروق بقرب يومه، فتنازل عن نصيبه في التجارة لزكريا، وتضاعفت التجارة وزاد الرزق وبات المحل اثنان ثم ثلاثة وأربعة.

رسائل صباحية لامرأة تعشق السهر

وفي المقابل، كان نزيف الميراث متواصلا على يدي حسن، الذي قتل في شجار بينه وبين عشيق صباح، صاحبة الدار المشبوهة، فتولى إخوة حسن إدارة الوكالة التي تراكمت عليها الديون، ما دفعهم لقرار بيعها، فتقدم زكريا بعرض لشرائها، لكنهم رفضوا ذلك وطردوه مرة أخرى، بينما باعوا الوكالة للمعلم شفيق بثمن أقل مما عرضه زكريا.

سرعان ما أزال شفيق اسم نوح من على واجهة الوكالة، ليضع اسمه عليها، إذ أنه لم يكره في حياته أحدا مثلما كره نوح، وذلك لأن الرجل الراحل كان وجيها ومحل ثقة الجميع، وكانوا يعتبرونه كبيرا للحي، رغم أن شفيق ينتمي لعائلة أكثر مالا وأعز نسبا وحسبا.

لم يهدأ لزكريا بال، فاشترى محلا إلى جوار الوكالة وكانت مساحته أكبر، وأخذ ينافس المعلم شفيق، وسرعان ما أكل منه السوق، خاصة وأن بضاعته كانت أفضل وأرخص سعرا، فضلا عن حلاوة لسان زكريا، الذي لم يكن ليصد محتاجا ولا يكسر خاطر مسكينا.

ضاق الحال بالمعلم شفيق فقرر عرض الوكالة للبيع، فتقدم زكريا وعدد من التجار لشرائها، ودارت بينهم جميعا منافسة في المزاد الذي أوصل سعر الوكالة لرقم أكبر بكثير مما تستحقه، وانتهى المطاف بأن بقي في المنافسة زكريا وتاجر آخر يدعى جابر، ورغم أن السعر الذي قدمه زكريا كان أكبر، إلا أن شفيق فضل بيع الوكالة لجابر.

في اليوم التالي، وقف المعلم جابر لينزل تلك اليافطة التي تحمل اسم المعلم شفيق، وكانت المفاجأة حين علق اليافطة الجديدة أو لنقل القديمة، والتي تحمل اسم المرحوم «نوح»، ثم أخرج من جيبه مفتاح الوكالة ومنحه لزكريا، وسط دهشة أهالي الحي ومن بينهم أبناء نوح.

صعد نوح السلم الخشبي أمام الوكالة، فقبل اليافطة وبللها بدمعه، ثم نزل ليجلس أمامها مبتسما، ولليوم لا أحد يعرف ذلك السر، إذ إن نوح كان قد اتفق مع جابر ليدخل المزاد على بيع الوكالة، وذلك لأنه يعلم جيدا أن شفيق لم يكن ليبيعه إياها مهما عرض عليه من مال، فلجأ لتلك الحيلة حتى يسترد الوكالة ليعيد إلى واجهتها اسم ذلك الرجل الذي انتشل أمه من الضياع، قبل أن تلده في ذلك المخزن بعيدا عن «كلاب السكك».

الجريدة الرسمية