رئيس التحرير
عصام كامل

حكايات تبحث عن راوي

في حياة كل منا حكاية غير مكتملة، يود لو يرويها، فربما يصادف أحدا يحتفظ ببقايا حكاية أخرى تصلح لأن تكون الجزء المتمم لقصته..

 

1

عزيزتي، أكتب إليك الآن وقد تعافيت تماما منك، فلم أعد أحلم بك، ولا أقضي يومي في استرجاع ذكرياتنا سويا، كما أنني لا أفكر فيك، ولا أراك أمامي كلما أغمضت عيني، لقد نسيت تماما ملامحك حتى إنني أراهن أننا إذا تقابلنا يوما لن أتمكن من التعرف عليك، ولن تلفت نبرة صوتك انتباهي..

 

ولن تميز يدي ملمس يدك إذا تصافحنا، حتى عطرك المفضل إذا شممته لن يكون له تأثيره المعتاد علي، ولا أخفيك سرا إذا قلت إنني محوت كل الرسائل التي تبادلناها والصور التي جمعتنا والأشياء التي اشتريناها معا، حتى الأماكن التي التقينا فيها يوما ولو صدفة محوتها من الخريطة.. حقا لم يعد لك أثرا في حياتي..

وأخيرا، يطيب لي عزيزتي أن أخبرك أنني لم أعد ذلك الرجل الذي عرفته قبل سنوات، لقد تغيرت تماما، لكنني فقط لم أتعافى بعد من الكذب.

 

2

قبل ألف عام، وفي زقاق صغير، كان هناك بيت بسيط وهادئ يسكنه رجل مجهول، لم يكن عظيما ولم يترك أثرا يذكر ولا سيرة تحكى، لم يخلف زوجة تفتقده حين تحتضن الوسادة أو ولدا يبكيه حين تتحلق حوله الضباع.. كل ما فعله هو أن عاش وحيدا في سلام، وحين أتى أجله رحل في سلام، حتى أن أحدا لم يشعر بغيابه، لقد تلاشى مثل حفنة من ملح ألقيت إلى البحر.. كان لا أحد، لكنه عاش في سلام ورحل في سلام..

 

اقرأ ايضا: كيف تتجنب صدمات النهايات؟

 

3

لا يمكنك أن تطلق لقب «بيت» على أي مكان تعيش فيه، فهو لا يصير بيتا – أو بيتك بالأحرى – إلا إذا تزوجت فيه وأنجبت، ثم ذات صباح توقظك امرأتك لتخبرك أنه يتعين عليك اليوم أن ترمم الجدار أو أن تعيد طلاء المنضدة، وبينما تقوم بمهمتك، تصطدم برأسك الكرة التي ركلها طفلك، فتصرخ أنت لتكف ابنتك ذات السبعة أعوام عن مطاردة الأوز في الفناء..

 

والبيت رتبة، لا تُمنح للأماكن، لكنها تكتسب، حين تتحول المباني إلى جزء من العائلة، بل يكون البيت هو الجد الأكبر، الذي ينتسب له من يسكنه، لهذا يقولون إن فلانا ينتمي لبيت «فلان»..

أما قطع الأثاث فهي من أفراد العائلة، شريطة أن تكون مخلوقة من الخشب الطبيعي، فهذه المنضدة التي كنت تعيد طلائها قبل قليل، ليست سوى عمة كريمة تمد يديها دوما بالخبز الساخن للعابرين..

ولكل بيت سيرة ذاتية، تبدأ بشهادة ميلاد خطتها الفأس التي قضمت أول حفنة من الأرض، ولا تنتهي بسقوط الدار، فالبيوت لا تتحلل أجسادها إن هي هُدمت، بل تبعث من جديد حين تلتئم الأطلال لتشكل جسدا جديدا تحل فيه الروح القديمة للبيت، ليبدأ حياة جديدة في سلسلة لا تنتهي.

 

4

في محطة القطارات رجل لا يسافر أبدا فقط يقف متأهبا لمعانقة فتاة تبحث عن مودع لا يأتي، أو ليمنح القادمين قبلة نيابة عمن خذلوهم.

 

اقرأ ايضا: سيما أونطة

 

5

تصر صديقتي على أن تعيش في ظل الرجل الذي هجرها. لم تستوعب بعد أنه لم يعد موجودا. تظن أنه رحل مخلفا ورائه ظله لتحتمي فيه. أحيانا أشعر بأن علي أن أصرخ في وجهها كي تفيق وتعي أن من أوهمها بحبه لم يكن رجلا بل كان ظلا تبدد بطلوع النهار، لكنني أخشى أن أقطع ذلك الخيط الوهمي الوحيد الذي يربط بينها وبين الحياة!

 

6

الأماكن التي تشعر فيها بالراحة دون سبب واضح، هي أماكن عاش فيها سابقا أناس أرواحهم تشبه روحك، فحتى بعد رحيل الجسد تظل الأطياف موجودة في المكان تؤانس من تجده لطيفا يناسبها فتألفه ويألفها، والعكس صحيح فهناك أماكن تنقبض فيها روحك دون سبب ظاهر، تلك عاش فيها من لا تتمازج روحه مع روحك.. لهذا لا ترغم نفسك على قبول مكان لا تجد فيه راحتك حتى وإن لم تجد سببا لذلك.

 

7

يحتفظ جدي بصينية نحاسية تكسوها الزخارف، في صندوق خشبي قديم مغلق بقفل صلد، ولا يخرجها منه إلا إذا سأله أحدهم عن سيرته الذاتية.

الرجل العجوز لا يتحدث عن نفسه مطقا يكتفي فقط بأن يمسك أصابع يدي ويمررها على النقوش المحفورة في المعدن، فيتسرب داخلي صوتا لحكاية طويلة تكافئ الأعوام الثمانين التي عاشها.

اقرأ ايضا: طب ينفع كده؟!

 

الصوت الذي أسمعه حين تلامس أناملي الخطوط المحفورة يشبه طرقات النحَاس على الصينية وهو يدندن أغنيته الوحيدة.. طرقات في مجموعات مختلفة تشبه الحروف والكلمات، فتشكل لغة فريدة، لكنك حتما ستفهمها حتى وإن لم تكن قد تحدثت بها يوما..

 

ظل السر محبوسا في صدر جدي إلى أن أخبرني به، وهو يحتضر، إذ قال إن النقوش التي تغطي المعدن، لم تكن إلا الندبات التي حفرتها الحياة في روحه، فالرجل يؤمن بأن الآلام والانكسارات فقط ما يستحق أن يروى عنا، ليعرف من يأتي بعدنا كيف تمكنا من النجاة..

 

8

امرأة واحدة لا تكفي هذه حقيقة، لكن من قال إن المرأة الواحدة مجرد شخص واحد، هي حتى وإن كانت طفلة فإنها ابنة وأم وأخت وصديقة وشريكة وألف شخصية أخرى في نفس الوقت.. ذلك إن أرادت، لكنها أحيانا تفضل أن تلعب دورا واحدا ربما لأنها لم تعتد تهتم.

 

نحن لا نبك الذين تغيروا، لكننا نبكي من كانوا.. نفتقد النسخة الأولى منهم، بحلوها ومرها.. نفتش عنهم في محادثات سابقة وصور قديمة.. حسنا، هم ليسوا هنا الآن، ومع ذلك لدينا الفرصة في لقاء يجمعنا لثوان، حين نشم رائحتهم في عطرهم المفضل، كلمة رددتها ألسنتهم آلاف المرات، أغنية سمعناها معا، كتاب تبادلناه، ولون كان يليق بهم..

الجريدة الرسمية