رئيس التحرير
عصام كامل

في ذكرى يوم الأرض.. أبو نضال الفلسطيني يروي قصه رصاصة عمرها 44 عاماً

فيتو

خطوة تلو الأخرى، تذكره بيوم محدد.. لم يكن للزمان وتداعياته القدرة على محو تفاصيل هذا اليوم، فلو أن الذكريات خضعت لعوامل النسيان، كيف للألم أن يسير على خطاها ويساق إلي هوة التناسي المرفوضة.

 

كل خطوة تأن فيها قدم الحاج علي محمد شلاعطة "أبو نضال" ذلك الرجل الفلسطيني الذي يناهز عمره السبعين عاما، والذي سقطت إحدى قدميه فريسة لرصاصة غاشمة وجهتها عناصر الجيش الإسرائيلي المحتل إليه، خلال المواجهات التي اندلعت يوم 30 مارس عام 1976 في مدينة سخنين داخل الأراضي المحتلة.

 

 

حديث يستجلب الذكرى، أجرته "فيتو" مع أبو نضال، للرجوع ٤٤ عاما للوراء، لرواية كواليس قصة إصابته في اليوم الذي سمي لاحقًا بـ يوم الأرض.

 

"كان عمري 22 عاما" بتلك النبرة الحزينة بدأ أبو نضال سرد قصته التي كانت شرارتها قرار الاحتلال الإسرائيلي بمصادرة أراضي منطقة "9" ذات الأغلبية الفلسطينية والواقعة في مثلث قرى "عرابة، دير حنا، سخنين" داخل أراضي الخط الأخضر.. الأمر الذي رفضه فلسطينيو الداخل الفلسطيني وقرروا في اجتماع جمع رؤساء المجالس والبلديات عمل إضراب شامل رفضًا للمصادرة .

 

يقول أبو نضال: "أنا من سخنين، إحدى مدن مثلث يوم الأرض الخالد، وكان عمري آنذاك قرابة الاثنين وعشرين عامًا، حيث كانت حياتي طبيعية بين العمل والمنزل وحب كليهما، إضافة إلي حب الأرض التي أنتمي إليها.. أتذكر تفاصيل اليوم كأنه وقع البارحة، حيث كنت أعمل في مدينة طبرية، وعند عودتي إلي المنزل، ذهبت إلى مركز البلد والذي يدعى حاليًا (دوار الشهداء).. كان معظم أهل القرية هناك، مجتمعين للتظاهر والإضراب رفضًا لقرار المصادرة، وكنا نعلم أن قرى عرابة ودير حنا مثلنا في حالة تظاهر وإضراب" .

 

كانت تلك اللحظات بمثابة الهدوء الذي يسبق العاصفة، حيث يتابع أبو نضال سرد قصته قائلا: "مر الوقت سريعًا، وجاءنا الخبر أن مصفحات الجيش بدأت دخول القرى من ناحية الشرق، حيث بدأت تحديدًا من قرية "عرابة" ثم تابعت إلي دير حنا، ووقعت العديد من الاشتباكات وبدأ تعداد الشهداء، وما هي إلا دقائق حتى وصلتنا المجنزرات إلي "سخنين" في مركز البلد، فبدأت الاشتباكات بيننا وبين الجيش الذي راح سريعًا يطلب إمدادات إضافية للسيطرة، وبالفعل وصلت القوات الإضافية من وحدات الشباب في الجيش، والذي يعرف عنهم الضرب دون رحمة بشكل شبه انتحاري" .

 

 

في تمام الساعة الواحدة ظهرًا، بدأ إطلاق الرصاص الحي، الذي لم يملك أهل القرى ردًا عليه سوى بالحجارة، ومع اشتداد الاشتباكات، بدأت عمليات ملاحقة الأهالي داخل الحقول وبين الشجر.

 

"سخنين” أصبحت مطوقة بقوات الجيش من ثلاث جهات وهي "الشمال والجنوب والشرق"، فما بقى للأهالي العزل إلا الفرار ناحية الغرب، وكان أبو نضال بينهم .

 

يتابع أبو نضال: "بدأت في الركض ناحية الغرب، فوجدت أمامي غرفة تستخدم كمخبز، فلذت بالاختباء داخلها، ولكن الخوف بدأ يدب في روحي من أن تهدم قوات الجيش الغرفة فوق رأسي، لذا خرجت منها سريعًا أتابع الركض، حتى وجدت منزلا بشرفة واسعة، لذا ركضت نحوه حتى أقفز في غرفته، وما هي لحظة حتى شعرت بشيء ما ينفجر في جسدي.. كانت تلك هي الرصاصة التي وجدت قدمي أمامها، فاستباحتها.

 

بقيت في شرفة المنزل، لا أعرف بالضبط وقتها أين كانت إصابتي، فجسدي كله شبه مخدر ولا أشعر به، حتى جاءني بعض الشباب الذين رأوني مصابا، فأسرعوا تجاه عائلتي لإخبارها، وبقيت أنا مكاني قرابة الساعة في نزيف متواصل، إلا أن القدر والشظايا التي تناثرت في قدمي، حالت دون نزيف الدم بشكل سريع، وهو ما أنقذني ودعمني للمقاومة لساعة كاملة .

 

بعد مرور الساعة، جاءني مجموعة من الشباب لإسعافي، وكان أول ما طلبته منهم أن ينقلوني إلى مستشفى عربي، وقاموا بنقلي إلي المستشفى الإنجليزي في مدينة الناصرة.. وفي الطريق بدأت بفقد وعيي تدريجيًا.

 

 

ثلاثة أيام كاملة قضاها "أبو نضال" في غيبوبة شبه كاملة، وما أن استيقظ حتى وجد العشرات من أهالي الداخل الفلسطيني جاءوا للتبرع بالدم، وأدرك فيما بعد أن أطباء المستشفى أرادوا بتر قدمه المصابة، إلا أن أخاه الأكبر رفض الأمر، فبدأوا بوصل الشرايين والتجبير للعلاج .

 

يتذكر "أبو نضال" تفاصيل تلك الأيام التي قضاها في المستشفى، فيقول: "كانت شرايين قدمي حية بحسب ما قاله الأطباء، إلا أن القدم نفسها كانت مثلها مثل الرماد، فبقيت في المستشفى قرابة الأسبوعين، ومن ثم عدت إلى المنزل ولكن مع انعدام تام للمشي، وبقيت ممنوعا من المشي لمدة ١١ شهرا قضيتها في المنزل، حتى حان موعد الفحص الطبي النهائي في القدس، والذين أشاروا لي ببدء المشي بروية، حتى أستعيد عافيتي" .

 

لم تنته القصة عند هذا الحد، فأبو نضال ابن الـ 22 عاما وقتها، لم يستطع بعد إصابته العمل، وهو ما دعاه للبقاء كعاطل حتى اليوم، نظرًا لإصابته التي لا يتمكن معها بالقيام من أي عمل جسدي.. فقدمه ما زالت تعاني من الالتواء، وما زال الألم يضربها على غفلة منه بين الحين والآخر". 

الجريدة الرسمية