رئيس التحرير
عصام كامل

سر القديس سنتوف

قبل أن يطلق «سنتوف» أول واء في حياته، علم أهله أنهم أمام مأساة حقيقية تتجسد في هذا الطفل العجيب، حتى أنهم فكروا في دفنه حيا كما كفار قريش، وذلك رأفة به فهم يعلمون كيف سيعامله هذا العالم المتوحش.

لا أحد يعلم كيف تمكن سنتوف من البقاء على قيد الحياة في هذه الدنيا وهو على هذه الهيئة الغريبة، إذ أنه لم ينج ولو مرة واحدة من ألسنة العابرين في الطرقات والبائعين في المحلات والمسافرين في القطارات. في البداية كان سنتوف يبكي دما كلما سمع أحدهم يسخر من شكله وهيئته، لكن بمرور الوقت فقد الذم والسب هيبته، حتى أن المسكين كان يضحك كلما سمع أحدهم يسخر منه.

صحيح أن سنتوف تمكن من التعايش مع سخرية الناس، لكنه كأي شاب في سنه يريد أن يفتح بيتا، وكما تعلمون ففتح بيت في هذا الزمان أصعب من فتح عكا، فالأمر يحتاج إلى مال من أجل شراء الأنتريه والنيش.. وطبعا المال يحتاج إلى عمل.. ولأنه ليس كباقي البشر فلم يكن من السهل عليه أن يجد وظيفة، أو لنكن أكثر دقة لم يكن هناك من يريد توظيفه في أي وظيفة أو عمل حتى ولو كانت المهمة الموكلة له تندرج تحت فئة «المهن غير الإنسانية».

 

اقرأ أيضا: كيف تتجنب صدمات النهايات؟

 

ربما يسألني أحدكم: وما هي هيئة وشكل هذا السنتوف الذي صدعت رؤوسنا به؟!

وأنا أقول: عذرا يا أصدقائي معكم حق، ولهذا دعوني أشرح لكم الأمر ببساطة.

ببساطة، فإن سنتوف هو طفل ولد برأس فأر، لهذا أصبح أيقونة من أيقونات الفأل السيئ، وكلما ذهب إلى مكان تشاءم منه الحاضرون وفروا من أمامه كفرارهم من المعزة الجرباء، فما بالكم إذا ما ذهب إلى أحدهم ليوظفه؟ طبعا تعرفون الإجابة فالجميع يقولون له: اذهب أيها «الملعون» كيف لنا أن نشغل لدينا رجلا برأس فأر!!

ظل الحال على ما هو عليه إلى أن كان سنتوف يجلس على الرصيف واضعا رأسه المدبب بين ركبتيه وهو يبكي حظه المقطرن، إلى أن مر إلى جواره رجل يبدو حكيما بسبب الشيب الذي ينتشر في شعر رأسه ولحيته.. وقف الحكيم يتأمل سنتوف وهو يبكي، ثم مسح على فروة رأسه وقال له: ما لك يا بني وما سر بكائك؟

اقرأ أيضا: الصحافة فين

هنا رفع سنتوف رأسه ليطالع وجه ذلك الرجل الطيب، غير أن صاحبنا الحكيم هذا بمجرد أن رأى وجه الفأر الموضوع على جسد إنسان انتفض كمن شاهد أفعى وصاح كما كريمة مختار: احمينا يا رب..

بكى سنتوف بحرقة، فها هو الرجل الذي ظنه عطوفا اتضح أنه يرتعب من شكله مثل الآخرين.

وقبل أن يعود سنتوف إلى وضعه السابق ليواصل البكاء، اقترب الرجل الذي كان قد فط ونط وركب الهواء، فطمأن صاحب وجه الفأر بلمسة حانية على فرو رأسه، وسأله عن سر بكائه، فأخذ سنتوف يقص على الرجل حكايته «من طأطأ لسلامو عليكو». استمع الرجل الحكيم للحكاية، فغام بعينه لبرهة ثم أخبر سنتوف أن لديه الحل، فتبسم صاحبنا وفرح، وانطلق مع صديقه الوحيد إلى حيث لا يعلم.

اقرأ أيضا: عجوز يكتب التاريخ على حذاء

وقف الحكيم أمام القاضي ومعه سنتوف، وأخذ يتحدث كما المحامين في عصرنا هذا، تاليا مرافعة طويلة عريضة انتهت بأن طلب من المحكمة أن تصدر حكما يقضي بتغيير بطاقة هوية سنتوف، ليكتب في خانة النوع: فأر بجسد إنسان، بعد أن كانت «إنسان برأس فأر».. وهنا اندهش سنتوف نفسه قبل القاضي ومستشاريه، والذين سألوا عن السر وراء هذا الطلب الغريب، فقال لهم الحكيم: إن ذلك في صالح هذا الكائن المسكين..

بالفعل، أصدر القاضي حكما يقضي بأن تكتب في خانة النوع ببطاقة هوية سنتوف عبارة «فأر بجسد إنسان».

في غضون أيام شاع الأمر في المدينة، وقبل أن يمر أسبوع جاء رجل ضخم الجثة بلحية خفيفة وطلب مقابلة سنتوف، ليعرض عليه وظيفة.. قبل سنتوف الوظيفة حتى قبل أن يعرف «ماهيتها» أو حتى «مهيتها».. وكل ما يعرفه أنها وظيفة في السيرك، الذي يمتلكه هذا الرجل البدين.

اقرأ أيضا: أمي كاذبة

في الدعاية التي أطلقها صاحب السيرك، قال الرجل: «أنتم مدعوون لمشاهدة عجيبة هذا الزمن وكل الأزمنة.. إنه سنتوف الفأر المعجزة الذي يسكن جثة إنسان».

والغريب أن الناس الذين كانوا يشاهدون العرض كانوا يقفون أمام سنتوف وهم يذكرون اسم الله ويسبحونه إجلالا لهذا الكائن «المقدس»، والذي أنعم الله عليه بجسد إنسان ليكون آية ومعجزة.. وهكذا بدأ الأمر ينتشر في كل الأرجاء، حتى جاء من أفتى بضرورة بناء «مقام» يحمل اسم «القديس» سنتوف لإقامة الطقوس والشعائر، وراحوا يجزلون له العطاء من القرابين والهبات.

مر الوقت وأصبح سنتوف مقدسا غنيا ومشهورا بين البلاد والعباد، لكنه أبدا لم ينس ذلك الحكيم الذي فطن منذ البداية إلى أن إنسانا برأس فأر ليس كفأر بحسد إنسان، فالناس ينظرون للأول على أنه «ملعون» أما الثاني فهو «مقدس».

الجريدة الرسمية