رئيس التحرير
عصام كامل

"حجاج" و"دوس".. أول شهيدين للطيران المصري


في ١٨ نوفمبر سنة ١٩٣٣، غادر سرب الطائرات الحربية المصرية إنجلترا متجهًا إلى المملكة المصرية، وفيما كان السرب محلقًا في سماء فرنسا، سقطت إحدى طائراته محترقة في بلدة "مونشو سورنج"، وتوفي طياراها الشابان "فؤاد حجاج"، و"شهدي دوس"، محترقين!


الملازم أول طيار الشهيد "فؤاد عبدالله حجاج"، كان من أول ٣ طيارين حربيين في مصر اختيروا من بين ٣ آلاف شاب، وتم تدريبهم في قاعدة أبوصوير وكانت إنجليزية، أما الأمباشي الفني "شهدي دوس" فكان من الرعيل الثاني.

ولنبدأ القصة من أولها؛ في عام 1928، أقر البرلمان المصري اقتراحا بإنشاء قوة جوية، وفي أعقاب ذلك أعلنت وزارة الحربية عن حاجتها لمتطوعين، ومن بين 200 تقدموا، نجح فقط 4 أفراد، حيث توافرت فيهم شروط اللياقة البدنية المطلوبة، وتم تدريبهم في قاعدة أبو صوير الجوية على أنواع مختلفة من الطائرات، وتخرجوا، وسافروا إلى بريطانيا لخوض تدريبات أكثر تخصصًا.

في 2 نوفمبر عام 1930، أعلن فؤاد الأول، ملك مصر والسودان، في مرسوم ملكي، قانون إنشاء القوات الجوية الملكية المصرية كفرع للجيش المصري. وفي 27 مايو 1931، أقر مجلس الوزراء شراء 5 طائرات، بميزانية قدرها 50 ألف جنيه مصري، بالتزامن مع بدء إنشاء أول قاعدة جوية مصرية في ألماظة بمصر الجديدة.

هذه الخطوات أثارت حنق الاستعمار البريطاني، لا سيما أنها تمت دون استشارة المندوب السامي، فبذلت حكومة الاحتلال كل جهدها لتعطيل إنشاء قوات جوية مصرية.. ونجحت في ذلك إلى حد بعيد، حيث عرقلت تنفيذ تلك القرارات لنحو 10 سنوات كاملة!!

وفي كتابه "الجيش المصري في السياسة"، يكشف مؤلفه "عبد العظيم رمضان"، محاولات التشكيك في كفاءة الطيارين المصريين، من قبل نواب الحزب الوطني بمجلس النواب، ففي 20 أبريل 1932، وجه "محمد حافظ رمضان" سؤالًا إلى وزير الحربية، حول سلاح الطيران المصري، قائلًا: "نحن نسمع أن هناك سلاحًا للطيران الحربي، ولكنني لم أتبين له أثرًا، فأين سلاح الطيران الحربي الذي تكلم عنه سيادة الوزير؟!

ورد رئيس الوزراء "إسماعيل صدقي" باشا: أتعني أنه ليس لدينا سلاح طيران؟! أجاب النائب: إنه موجود، ولكن الطائرات تشحن بالقطارات، ولا تأتي إلى مصر طائرة.. فرد "صدقي" باشا: انتهى تدريب فريق من الطيارين، وسيأتون بمشيئة الله إلى بلادنا طائرين"..

وكان الاختيار قد وقع على طائرة التدريب البريطانية "هافيلاند"، وأقلعت الطائرات من إنجلترا، ووصلت إلى مصر في مايو 1932، وكان طياروها ثلاثة مصريين يصحبهم طياران إنجليز.

وقد تم تعيين الكندي القائم مقام -عقيد- "فيكتور هوبرت تيت"، قائدًا لسلاح الطيران، والبكباشي -مقدم- الإنجليزي "سيدني ويبستر"، نائبًا له، منتدبين من سلاح الطيران الإنجليزي الملكي.

وتعاقد الجيش المصري مع إنجلترا لشراء أول 10 طائرات مقاتلة من طراز "أفرو 626"، وكان مقررًا لها أن يقودها طيارون مصريون تم تدريبهم، ومن ثم طاروا في 18 نوفمبر 1933، من إنجلترا، للقيام بهذه الرحلة من قاعدة في جنوب بريطانيا، مرورًا بباريس، ومرسليا، ونابولي، وصقلية، وتونس، وطرابلس، وبنغازي، ثم مرسي مطروح، فقاعدة ألماظة بالقاهرة، حيث كان مقررًا استقبالهم رسميًّا كأول طلائع القوات الجوية الملكية المصرية.

في يوم الإقلاع 18 نوفمبر، حضر الوزير "حافظ عفيفي" باشا، بصحبة القائم مقام "تيت" والبكباشي "ويبستر"، لقاعدة ليمبن (Lympne) بجنوب إنجلترا، وتفقدوا الطائرات التي طليت وزُيِّنت بالعلم المصري، ووُضع عليها، لأول مرة، شعارات سلاح الطيران الملكي المصري، وأيضا استعرضوا الطيارين في لباسهم الخاص الجديد، وكان عددهم 18 فردا من الطيارين والمساعدين والفنيين المصريين.

ولدى اختبار الطائرات قبل الإقلاع، اكتشف الفنيون أن هناك 8 طائرات فقط جاهزة للإقلاع، وأقلع بها 16 طيارًا ومساعدوهم (بعضهم إنجليز)، وعبروا المانش في طريقهم لباريس، إلا أن الجو السيئ والضباب الكثيف كان يغطي المناطق الفرنسية المقابلة. 

وفور وصول الطائرات الثماني إلى جنوب فرنسا، في الطريق إلى باريس، ونظرًا لسوء الأحوال الجوية والضباب الكثيف، سقطت طائرتان، الأولى في منطقة "ويسمس أوفال" (Wismes- Au- Val) بـ "مستنقعات مياه"، ونجا القائدان، وهما إنجليزيان.

أما الطائرة الثانية فسقطت بمنطقة "مونشو سورنج" (Moncmoux)، وحسب وصف الخبراء للحادث، فإن الطيار القائد حاول الهبوط بعد اجتياز صف من الأشجار بالمنطقة، إلا أنه فوجئ بوجود خطوط كهربائية للضغط العالي أمامه، فحاول تخطيها بالمرور أسفلها، إلا أن الطائرة ارتطمت، بسرعة عالية، بالأرض، ثم ارتفعت ثانية، لكنها سرعان ما عادت للارتطام ثانية بالأرض، فانفجر مستودع الوقود بها، واحترقت، واحترق فيها الطياران، رغم محاولات الأهالي إنقاذهما.

وفي أعقاب استشهاد الملازم أول طيار "فؤاد حجاج"، والأمباشي الفني "شهدي دوس"، عم الحزن مصر، واعتُبر ذلك التاريخ عيدًا للقوات الجوية (18 نوفمبر.. وظل كذلك حتى خاضت قواتنا الجوية "معركة المنصورة" في يوم 14 أكتوبر 1973، محققة انتصارًا غير مسبوق في تاريخ الطيران الحربي على مستوى العالم، حيث تعد أضخم معركة جوية في التاريخ الحديث من حيث العدد (180 مقاتلة من الجانبين، 60 مقاتلة مصرية مقابل 120 مقاتلة إسرائيلية)، والأطول من حيث الوقت (53 دقيقة من القتال الجوي التلاحمي أو ما يطلق عليه بالإنجليزية (Dog Fight).

وصدَّق الملك على منحهما أنواطًا، وأشرف "محمود فخري" باشا، سفير مصر بباريس، على إقامة جنازة رسمية لهما، وأقيمت الصلاة عليهما بمسجد باريس.

والشهيد الملازم طيار "فؤاد حجاج"، رحمه الله، من مواليد مديرية جرجا 1909م (محافظة سوهاج)، وكان رياضيا طويل القامة مفتول العضلات وبطلا في الملاكمة والمصارعة، ويحمل كارنيه نادي القاهرة الرياضي برقم العضوية (27)، وكان عمره نحو 23 عاما. 

تزامن استشهاد الطياريين المصريين مع ذروة النضال الوطني لنيل الاستقلال، فأقيمت حفلات لتأبينهما في الجامعة المصرية، وتكونت بأسمائهما جمعية لإحياء ذكراهما..

وكتب أشهر الشعراء في ذلك الوقت قصائد رثاء لهما، فصاغ الشاعر الكبير "على محمود طه" قصيدة بعنوان ʺالأجنحة المحترقةʺ، والشاعر الكبير "إبراهيم ناجي" "شاعر النيل" قصيدة بنفس الاسم، وجادت قريحة الأديب "على الجارم" بقصيدة حملت اسم ʺأفول نجمينʺ.

وقامت وزارة المعارف بإدراج حادثة الاستشهاد ضمن مقررات التدريس للمراحل الثلاث؛ ʺالابتدائية والإعدادية والثانويةʺ؛ تكريمًا للشهيدين، وتعميقا للوحدة الوطنية بين عنصري الأمة. وفي العام التالي 1934، وفي ذكرى استشهادهما، قام الوزير "محمود فخري" باشا، بزيارة لمنطقة سقوط الطائرة بفرنسا، وتكريم الأهالي ومنحهم هدايا تذكارية لمحاولتهم إنقاذ الطيارين المصريين.
الجريدة الرسمية