رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

أبطال "خلف خطوط العدو"


رغم مرور 46 عاما على حرب أكتوبر المجيدة فإنها لم تبح بكل أسرارها، وما زالت مليئة بآلاف القصص لبطولات الشباب المصري الذي قدم روحه فداء لاستعادة رمال سيناء الطاهرة. تضحيات أبطال أكتوبر تستحق أن تتحول إلى أعمال درامية حتى يشاهدها المواطن المصري، بدلا من دراما البلطجة والدعارة والمخدرات التي دمرت شبابنا.


مؤخرا قرأت كتاب "خلف خطوط العدو" وهي ملحمة بطولية حدثت أثناء حرب أكتوبر، وسجلها أحد أبطالها اللواء "أسامة المندوه" في مؤلف يحمل نفس الاسم هذه الملحمة، التي بدأت فصولها بعد ساعتين من العبور وبالتحديد في الساعة الرابعة من عصر يوم 6 أكتوبر 1973.

صدرت الأوامر للنقيب "أسامة المندوه" والعريف "فتحى عبدالهادى" بالتوجه إلى مطار ألماظة، ليجدا في انتظارهما قائد الكتيبة العقيد "محمود عبدالله" والنقيب "سامح سيف اليزل" من المخابرات الحربية لكي يخبرهما عن مهمة في وسط سيناء، خلف خطوط العدو، لرصد تحركاته في تلك المنطقة الإستراتيجية، وانضم إليهما الشيخ "حسب الله" وهو من قبيلة "الإحيوات" التي تسكن هناك، وكان مقدرا للمهمة تسعة أيام.

وهي مهمة صعبة بالقرب من عدو لديه أجهزة أمنية محترفة، وفى صحراء موحشة يصعب الحصول فيها على ما يضمن البقاء على قيد الحياة، خاصة أن الطعام والشراب لا يكفي سوى أيام، كما أن المال المخصص لتغطية النفقات لا يزيد عن 90 جنيها بمعدل عشرة جنيهات في اليوم ولكنها استمرت ستة أشهر.

طائرة هليكوبتر حملت الثلاثة من ألماظة إلى أبو صوير لتتزود بالوقود، وعلى ارتفاع منخفض كي لا تكشفها رادارات ودفاعات العدو، حلقت فوق سيناء وعند منطقة الغرود الرملية أنزلتهم ومنها اتجهوا إلى منطقة تكشف أهم مراكز قيادة العدو في سيناء، مما يتيح للمجموعة أن تضع يدها على كنوز من المعلومات تفيد القيادة في قراراتها خلال المعارك الشرسة الدائرة بطول جبهة قناة السويس.

الأبطال الثلاثة اختاروا مكانا أعلى الجبل مناسبا يمكنهم من رؤية ما يحدث في مطار "المليز" والطريق الأوسط القريب من الممرات، بجانب أنه كان آمنا محصنا يصعب اكتشافه وتحتاج قوات العدو إلى ساعة ونصف الساعة سيرا على الأقدام للوصول إليه.

المجموعة استخدمت شفرة "مورس" للاتصال بالقيادة، واتفقوا على طريقة ما في الحوار تعرف منها القيادة ما إذا كانت اتصالات المجموعة آمنة أم أنها تجرى تحت سيطرة العدو بعد أسرها.

كان الشيخ "حسب الله" يغيب عن المجموعة طوال اليوم ليعود بالقرب من المغرب لإعداد الإفطار، وما أن يقترب من الوادى ويلحظه" المندوه" حتى ينزل هو و"عبد الهادى" إليه ليتجمع الثلاثة عند موقع تخزين التموين ليبدأ الشيخ في تجهيز الطعام على نار الحطب.

لم يكن الطعام ليزيد عن فطيرة تسمى "اللبة" مغموسة في شوربة الصلصة، تقسم على الثلاثة وبعدها كوب من الشاى الأسود يشربونه، والشيخ يروى ما جمع من أخبار حول تحركات العدو، بجانب ما تبثه محطات الإذاعة المصرية والأجنبية التي يلتقطها الراديو الترانزستور الذي اشتراه "المندوه" قبل السفر حتى يعلم منه ما يحدث في الحرب.

البرنامج اليومى للمجموعة كان ثابتا.. الاستيقاظ مبكرا مع أول ضوء.. استطلاع المكان بالنظر للتأكد من عدم وجود متغيرات.. الوضوء بأقل قدر من المياه للصلاة.. وتناول إفطار لا يزيد عن كسرة خبز مع شرب القليل من المياه.. وتشغيل المولد اليدوى لشحن بطارية جهاز اللاسلكى قبل الاتصال بالقيادة، والذي كان يعتبر شريان الحياة لأفرادها حتى تطمئن القيادة أنهم مازالوا على قيد الحياة.

والاتصال لم يكن سهلا بسبب ضعف التكنولوجيا وقتها، وكانت برقية من سطرين تحتاج جهدا كبيرا في تشفيرها عشوائيا وضبط الترددات واختيار مكان مناسب لهوائى اللاسلكى. في اليوم العاشر للمعركة شاهدت المجموعة من موقعها تدفقات الجسر الجوى الأمريكى بالعتاد والرجال لدعم إسرائيل.

يقول "المندوه" إنه في أحد أيام شهر رمضان الأخيرة فشلت المجموعة في الاتصال، ولم يكن أمامه إلا اللجوء إلى الله وقضى الليل كله في قراءة سورة الإخلاص حتى غفا نائما واستيقظ ليجد عاصفة ترابية عدمت الرؤية، ولكنها كانت طقسا مناسبا للاتصال ونجح في ذلك وجاء صوت قائد الكتيبة واضحا وتأكد أن المجموعة آمنة.

ولكن بدأ الخطر يقترب من المجموعة بعد وقف إطلاق النار، حينما طلب الجيش الإسرائيلى من البدو مساعدتهم في البحث عن جثة الشهيد "عاطف السادات" شقيق الرئيس "أنور السادات" الذي سقطت طائرته بالقرب من مطار المليز.

ومعنى ذلك أن ضابطا من المخابرات الحربية الإسرائيلية سيرافق قصاصى الأثر من البدو للبحث عن جثة "عاطف السادات" في المنطقة التي تختبئ فيها المجموعة، وفى الوقت نفسه التقطت القيادة الإسرائيلية ترددات لاسلكية في المنطقة، مما يعنى وجود مجموعات مصرية مختبئة فيها ووعدت البدوي الذي يرشد عنها بسيارة مرسيدس.

وخلال يوم هادئ في الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر شاهد "المندوه" عربات جيب إسرائيلية تتحرك في اتجاه الوادى المكشوف الذي يطل عليه الموقع الجبلى للمجموعة، وبسبب وعورة الطريق ترجل قصاص أثر يقود عدة أفراد في اتجاه مكان تخزين التموين، ولكنه توقف قبل خطوات قليلة منه وعاد إلى سيارته وغادر المنطقة.

لقد اختفت آثار أقدام الشيخ "حسب الله" بمعجزة من السماء، فقد كان يسقط بعضا من الدقيق الذي يأتى به من المكان ليجهز به فطيرة "اللبة" ولكن الطيور التقطت الدقيق المتناثر على الرمال، وأخفت بحركتها آثار أقدام المجموعة، ومن يومها و"المندوه" يوصى الشيخ بألا ينسى نصيب الطيور من الدقيق.

بعد انقطاع أخبار "المندوه" أصيبت عائلته بالقلق، وفى 16 مارس 1974 تلقت المجموعة أهم خبر في حياتها، فقد صدرت التعليمات إليها بالعودة إلى القاهرة، وتركت لـ"المندوه" حرية اختيار الطريق المناسب للسير فيه حتى يصل هو و"عبد الهادى" وأفراد مجموعات أخرى إلى القناة.

أحضر الشيخ "حسب الله" عشرة جمال بعدد العائدين، وتحركت القافلة في اتجاه الجنوب عبر مسالك مجهولة لا يعرفها سوى البدو الخمسة الذين يقودونها، وبعد 5 أيام وبالتحديد يوم 21 مارس وصلت القافلة إلى السويس، وكان في استقبالها قائد مكتب المخابرات العميد "فتحى عباس".

وفى الساعة التاسعة من صباح اليوم التالى استقبلهم وزير الحربية المشير "أحمد إسماعيل" ومدير المخابرات الحربية اللواء "فؤاد نصار"، وكان أفراد المجموعة في الحالة التي وصلوا عليها، وسجلتها صور نادرة أظهرت شعر رؤوسهم وذقونهم الطويلة، مجموعة "المندوه" قدمت ثروة من المعلومات جعلت القيادة تمد مهمتها من تسعة أيام إلى ستة أشهر. عاد النقيب "أسامة المندوه" لعمله في المخابرات العامة، وتدرج فيها حتى رتبة اللواء بدرجة وكيل الجهاز، وعمل ملحقا دبلوماسيا في سفارة مصر بتل أبيب، وفي لاجوس بنيجريا.

بعد 15 عاما من هذه الملحمة البطولية حدثت مفأجاة لم تكن متوقعة، وفي أحد مطاعم تل أبيب وجد "المندوه" في وجهه الضابط الإسرائيلي الذي كانت مهمته قتله هو ومجموعته المصرية وسط سيناء، وفيما بعد جمعته جلسة مع الوزير "أحمد أبو الغيط" الذي كان وقت الحرب مديرا لمكتب "حافظ إسماعيل" مستشار الأمن القومى، وعندما سمع منه القصة قال أبو الغيط: «الآن عرفت مصدر المعلومات التي كنا نتلقاها ونتعجب من الحصول عليها» ونصح "المندوه" بكتابة القصة.

هذه الملحمة تؤكد أننا أمام أبطال حقيقيين كانوا يموتون يوميا حتى تحيا بلدهم، وساهموا في تحقيق النصر بسلاح المعلومات، وتؤكد أيضا دور بطولات البدو ومشايخ وقبائل سيناء في تحقيق النصر العظيم وطرد العدو المحتل، وسوف تحيا مصر دائما في عزة ونصر بفضل جهود أبنائها المخلصين.
egypt1967@Yahoo.com
Advertisements
الجريدة الرسمية