رئيس التحرير
عصام كامل

أحمد بهاء الدين يكتب: صمت البحر

أحمد بهاء الدين
أحمد بهاء الدين

في مجلة صباح الخير عام 1957 كتب الكاتب الصحفى أحمد بهاء الدين مقالا قال فيه:

هناك قصص لا تبرح الذاكرة أبدا، وتمر السنوات وهى ما زالت عالقة بالذهن، وقد قرأت قصة منذ سبع سنوات صفحاتها مائة صفحة ما زالت في ذاكرتي.


القصة لكاتب فرنسى اسمه "فركوز" وهو اسم يتنكر فيه أيام مقاومة الفرنسيين للاحتلال النازي، وعندما انتهى الاحتلال حاول الناس أن يعرفوا من هو فركوز، لكنه كان قد مات أثناء المقاومة ولم يعرف عنه أحد شيئا.

القصة اسمها صمت البحر وتجرى أحداثها في بيت ريفى صغير يسكن فيه عجوز وابنته الشابة، وعندما جاء الاحتلال النازي فرض على كل صاحب بيت أن يسكن عنده ضابط ألماني من جيش الاحتلال.

ولنا أن نتصور كيف يستقبل العجوز وابنته هذا الضيف الثقيل.. أن أنفاسه في البيت تخنقهما وكل ما يستطيعانه هو الصمت المطبق.

والضابط الألمانى يعي تماما هذا الإحساس ويؤلمه أنه ضيف ثقيل ممقوت، ويحاول الضابط كسر هذا الصمت، ولانه مثقف ومرهف الحس.

يفتح أحاديثا مع العجوز وابنته حديثا عذبا عن قراءاته أو عن اعلام الموسيقى، وقد يعزف مقطوعة جميلة على البيانو لبيتهوفن.. كل ذلك والعجوز صامتا يقرأ صحيفة وابنته تشتغل التطريز في أحد المفارش.

يتحدث الألمانى طول الليل فلا مجيب.. لكن يتحرك قلب الشابة شيئا فشيئا إلى هذا المثقف الأنيق.. لكنها لا تنسى أنه من ضباط الاحتلال.

أما الشاب فقد بدأت نظرته للحرب تتغير ويحاول أن يقنعهم أن ألمانيا لا تريد إلا صداقة فرنسا.. ورغم ذلك فالصمت قائما.

تتحطم أعصاب الضابط فيذهب إلى رؤسائه في قيادة جيش الاحتلال يبحث عن الطرق التي يجب اتباعها لكسب قلب الشعب الفرنسى وصداقته.. لكن سخر رؤسائه من سذاجته.

في آخر ليلة يظهر الضابط أمام الشيخ الصامت وابنته ويقول لقد أدركت أن القضية التي أحارب من أجلها أدرك أنه هنا لكسر روح هؤلاء الناس الطيبين البسطاء، وانه يائس تعس وقد طلب السفر إلى الجبهة في روسيا لكى يموت هناك، ويستريح من عذابه.

وألقى الضابط على العجوز وابنته تحية المساء ويقرنها هذه المرة بكلمة وداع، ولأول مرة ترفع الفتاة عينيها إليه، ولأول مرة تنطق شفتاها بكلمة الوداع، وكانت هذه الكلمة بلسما أراحت ضمير الضابط وانصرف.

تذكرت قصة صمت البحر وأنا أسمع وصف عملية الهبوط التي قامت بها إنجلترا وفرنسا في بورسعيد عام 1956، كنت أفكر في هؤلاء الجنود الهابطين ماذا كان شعورهم، إن هؤلاء مقتنعون تماما بأن قضيتهم ليست عادلة.. فأي عذاب وأي رعب وحقد كان يضطرم في نفس الجندى في تلك اللحظات بين قفزه من باب الطائرة وبين وصوله إلى الطين.
الجريدة الرسمية