رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

القيم الطبية.. "على حجازي" نموذجا


"وأنا طالب بكلية الطب ظهر عندي حساسية شديدة في فروة الرأس والوجه، وكنت أتمنى تقشير الجلد حتى ارتاح، وبعد محاولات العلاج دون فائدة ذهبت لطبيب أمراض جلدية في جامعة المنصورة اسمه "على حجازي"، وكانت عيادته مزدحمة عن آخرها من كل المحافظات، لأنه كان من أفضل أطباء مصر في تخصصه..


سألت عن قيمة الكشف، فوجدت أنني لن أستطيع أن أدفعه، وتوجهت إلى السكرتير بحذر وأخرجت كارنيه الكلية، وبصوت ضعيف قلت له: "بلغ الدكتور فيه طالب بكلية الطب عايز يكشف ولا يملك قيمة الكشف"..

"السكرتير ضحك وأجلسني مكانه على الكرسي، ودخل للدكتور وثواني وطلع ينادي بصوت عالي الدكتور "محمد" يتفضل يقابل الدكتور "على"، طبعا أنا ظللت مكاني لأني لست دكتور رسمي، وكمان المفروض أكون آخر واحد يكشف- هذا لو الدكتور وافق أصلا يكشف عليا-".

السكرتير شاور علي وقال: اتفضل يا دكتور، دخلت غرفة الكشف فوجدت دكتور" على" مبتسما ويقول: "هو فيه دكتور بيمرض"، رديت عليه وقلت الحمد لله، كشف عليا وقال يا راجل بسيطة قوي وأعطاني كريم وشامبو القشرة. وقال: لما يخلصوا تعالى خد تاني من عند السكرتير، لأن لازم تدهن لمدة شهر ونصف. وأضاف: شوف يا "محمد" انا زميلك زي اخوك أو أبوك، ولازم تعمل الخير مع كل الناس وتشيلهم على رأسك..

الله يرحمك يا دكتور "على" ويكرمك كما أكرمتني".

هذه الكلمات كتبها أول أمس طبيب اسمه "محمد المصري" في صفحته على فيس بوك، وفي الحقيقة أنا لا أعرفه، ولكني أعرف جيدا المكتوب عنه، وهو الدكتور "على حجازي" عميد كلية طب المنصورة الأسبق، والذي رحل عن دنيانا منذ 15 عاما، وهذه الواقعة على الأقل عمرها ربع قرن، وما زال يتذكرها "المصري" حتى الآن والذي غالبا حصل على الأستاذية.

الدكتور "على حجازي"، رحمه الله، كان ملاك يعيش بيننا، ومجموعة قيم تسير على الأرض، وما كتبه عنه "المصري" هو "غيض من فيض" (قليل من كثير)، وكان منهجه في الحياة أن يغرس القيم الطبية الإنسانية في نفوس طلابه بأسلوب عملي، وأن يكون قدوة لهم، وكانت تعليماته لسكرتير عيادته إعفاء جميع طلاب كلية الطب وأقاربهم من قيمة الكشف حتى يعلمهم الرحمة بالمريض منذ صغرهم.

دكتور حجازي (رحمه الله) حقق المعادلة الصعبة، وجمع في شخصه الخصال الحميدة في التفوق العلمي والأخلاقي والمهني والإداري وصلة الرحم والكرم، وأيضا الرحمة بالمرضى مع بشاشة الوجه وخفة الظل، حتى وهو في عز مرضه اللعين كان يتوجع من داخله ولكنه مبتسما في وجه الجميع.

خلال مدة عمادته القصيرة لطب المنصورة (معظمها كان مريضا) ولكنه قدم لبلده الكثير وأنجز عملا عظيما ومفتخرا، وما زال حتى اليوم سببا في إنقاذ حياة المرضى من الموت، وهو برنامج زراعة الكبد بالمنصورة، والذي يعتبر من أهم وأنجح برامج زراعة الأعضاء في مصر ومنطقة الشرق الأوسط.

عليه رحمة الله كان رجلا محترما نظيف القلب واليد واللسان، بارا بعائلته، وأهل قريته، وكانت جنازته مشهدا مهيبا، ولا أنسى وأنا أسير فيها أن سمعت بعض نساء القرية تقول لجثمانه "رايح فين وسايبنا لمين"، وعلمت بعد ذلك أنه كان يتكفل بنفقات الطلاب الفقراء المتفوقين من قريته حتى تخرجهم، ويخصص رواتب شهرية لأسر اليتامى والمساكين بالقرية.

مثل هذه النماذج مؤكد أنها مازالت موجودة في حياتنا، ولكن للأسف لا الإعلام ولا الثقافة ولا الدراما ولا حتى التعليم عندنا يحاول تسليط الضوء عليها، حتى تكون قدوة طيبة لشبابنا المحبط، والذي لا يرى أمامه في شاشتنا سوء النماذج السيئة من البلطجية وتجار المخدرات والتافهين والتافهات.

ألف شكر للدكتور "المصري" الذي ذكرني بهذا الرجل العظيم، ومنحني فرصة الكتابة عنه، ونسأل المولى تبارك وتعالى أن يرحمه بحق هذه الأيام المباركة، ويجعل مثواه الجنة جزاء ما قدم لأهله ووطنه.
egypt1967@Yahoo.com

Advertisements
الجريدة الرسمية