رئيس التحرير
عصام كامل

بنبان.. صناعة مصرية خالصة


دعتني الدكتورة "سحر نصر"، وزيرة الاستثمار والتعاون الدولي، لزيارة مشروع «بنبان» للطاقة الشمسية بأسوان بصحبة رئيس مجموعة البنك الدولي السيد "ديفيد مالباس"، والدكتورة "غادة والي" وزيرة التضامن، وعدد من مرافقي ومسئولي البنك الدولي، ورغم أنني أتحسس حافظة نقودي كلما سمعت اسم أو مرادف البنك الدولي، ورغم الصورة الذهنية الأليمة لهذا البنك في ثقافتي إلا أنني لم أمنع نفسي من الاطلاع المباشر على واقع قد يغير قراءات عديدة سلبية لهذا الكيان الدولي لا تزال عالقة بذاكرتي.


في الثامنة صباحا انطلقت بنا السيارة من فندق موفنبيك الأنيق إلى الطريق الصحراوي، حيث امتداد قرية "بنبان" التي تحتضن في جزء منها النيل العظيم، ويقابلها امتداد لا نهاية لأفقه في صحراء واسعة كانت حتى وقت قريب مرتعا للفراغ القاتل والخوف الرهبة وكل مترادفات الوحشة المميتة، وصلت بنا السيارة بعد قرابة الساعة إلى ضجة محمودة من شباب أسمر، يرتدون ملابس الطوارئ والعمل الميداني في صورة زاهية تمتلئ حياة وصخبا وعملا دءوبًا.

لم يكن قد وصل بعدُ موكب السيد "ديفيد مالباس" والوزيرتين "سحر نصر" و"غادة والي".. اندفعت نحو الشباب.. سألت «محمود» فتى أسواني تنعكس سمرته على بحر من الرمال الصفراء في لوحة مفعمة بالحيوية، وسألته عن عمله.. قال: أعمل مع إحدى الشركات المصرية المنفذة للمشروع.. تعلمنا على أيدي شركة هندية ظلت معنا ستة أشهر ثم غادرت الموقع لنكمل نحن المسيرة.. العمالة مصرية مائة بالمائة نقوم بالتركيب وكافة العمليات الأخرى حتى إنتاج الكهرباء.

على أرض المشروع فسيفساء إنسانية من كل حدب وصوب، شباب من "بنبان"، وآخرون من محافظات عدة.. المنوفية.. الشرقية.. سوهاج.. أسيوط.. كلهم طرقوا الباب فوجدوا رزقا حلالا وعملا جديدا أضاف إليهم خبرات أصبحوا بموجبها قادة للعمل في أكبر مزرعة للطاقة الشمسية على مستوى العالم.. قرابة الآلاف العشرة من شباب مصر يواصلون العمل ليل نهار حتى اقتربوا من إنتاج ٢٠٠٠ ميجاوات تمثل ٩٠٪ من كهرباء السد العالي..

نعم نحن نقف الآن على ضفاف سد عالٍ جديد بُنَاته مصريون، والشركات المنفذة مصرية ١٠٠٪.

وصلت الآن الدكتورة "سحر نصر" وبصحبتها "ديفيد مالباس" رئيس مجموعة البنك الدولي، والدكتورة "غادة والي".. جولة سريعة حول المشروع الفائز بجائزة أفضل مشروعات البنك الدولى على مستوى العالم، ولكن لماذا فاز؟ المشروع إنتاجيٌّ ينفذه القطاع الخاص، وكل العاملين فيه من شباب مصر.. يصل إنتاجهم إلى ٩٠٪ من إنتاج السد العالي من الكهرباء.. تشتري الدولة هذا الإنتاج وتضخه على الشبكة القومية للكهرباء.. عناق بين ضمانة الحكومة وتمويل البنك الدولي وتنفيذ القطاع الخاص.. فعلا المشروع مثالي يغسل سمعة البنك الدولي أكثر من كل مقالات الدعاية التي يمكن أن تحاول إنصافه!

عشرة آلاف فرصة عمل حقيقية جديدة وقابلة للنمو لتصل إلى عشرين ألفا بنهاية المشروع.. أنشئ المشروع على ٣٧ فدانا من الأرض القاحلة الصحرواية التي لم نكن نتصور أن تتحول إلى كنز طاقة نظيفة لاستغلال مصدر الشمس الطبيعي الذي حبانا الله منه الكثير.. تستطيع أن تتخيل حجم المجتمعات العمرانية الجديدة لخدمة المشروع وتحقيق أهدافه بصورة مثالية تضيف إلى الناتج القومي قدرا كبيرا من الطاقة.

سألت الدكتورة "سحر نصر" عن مشروعات أخرى مشابهة لهذا المشروع تتوفر فيها فكرة الإنتاجية والتنمية المستدامة وتوطين تكنولوجيا جديدة وبناء مجتمعات محيطه على ضفافها.. عددت الوزيرة مشروعات أخرى مشابهة لهذا المشروع بالتعاون مع البنك الدولي، وعندما سألت السيد "ديفيد مالباس" عن حجم الفقر الحقيقي في مصر بعد تنفيذ روشتة الإصلاح الاقتصادي وأراد الرجل الإجابة عن السؤال إلا أن رجلا قابعا على المنصة اعتذر بعدم وجود وقت للإجابة.. أي والله!

في المساء كانت دعوة العشاء في أحضان معبد "فيلة" العظيم.. دعوة ذكية لرجل قادم من حضارة حديثة تاريخها لا يزيد في عمر الحضارات عن اللحظة الواحدة بين حنايا معبد شاركت دول العالم كافة في إنقاذه من غرق عظيم.. والسيد "ديفيد مالباس" طويل القامة يشبه لاعبي كرة السلة الأمريكيين.. تنقل مع عرض الصوت والضوء ليتضاءل حجمه مع أصوات العظماء الذين وفدوا لتقديم القرابين ل"إيزيس".. كلما انتقل خطوة انحنى قليلا مع طوفان حضارى قادم من رحم تاريخ يمتد لآلاف السنين.

عدنا إلى طاولة العشاء وقد تطاولت قاماتنا -نحن المصريين- بعد انكماش أمام القامة القادمة من حضارة لمح البصر، وتعالت ضحكاتنا بين نسمة جنوبية تلفح الوجوه برقّة ساحرة، وموسيقى "ياسر عبد الرحمن" المنسابة تغلف المكان برائحة مصر الأبية، مهما استدانت فقد دانت لها الإنسانية عبر قرون، ولا يزال طرحها الحضاري مثمرا رغم كل الظروف!
الجريدة الرسمية