رئيس التحرير
عصام كامل

دروس الدم التاريخية


حالة من البلادَة في الجدال العقيم والمعاد والمستهلك بعد كل حادث سال فيه دم الأبرياء، تكشف كم الزيف وغياب ضميرنا الإنساني، ووهن حجتنا العقلية ومدى تدهورنا الفكري والرأي السليم. عبث لا معنى له دار حول جريمة قتل ذات هوية دينية في مسجد في نيوزيلندا على يد قاتل ذات هوية دينية مغايرة.


إذن نحن أمام جريمة إنسانية. قاتل ومقتول ثقافة كل منهما تتمتع ببعض التطرف. السؤال هنا، من أين أصابهم التطرف؟ في أي نص من النصوص الدينية يكمن هذا التطرف؟ ومن هنا يبدأ البحث والنقاش.

بلا شك أن الأديان كلها ليست متطرفة، لأنها نابعة من ذات إلهية واحدة. لكن يوجد رأي متطرف.. قاتل منحرف.. ثمة تفاسير فقهية مغلوطة، وشروح صليبية أكثر دموية.. حقد تاريخي أسود مشترك بين أصحاب الأديان هو المحرك الفعلي لكل طلل مكاني اقترن بحدث تاريخي يراد له أن يعاد على جثث الأبرياء شركاء الدم والرب الواحد بيد جماعة بشرية تتحكم في عقول الجهلاء، وتحركهم لصناعة الدم وعنصرية الرأي والتسيد.

إصرار مريب من نخبة ضالة على تكرار درس الدم التاريخي الذي لا نتعلم منه أبدا، وكما بدا أننا لن نتعلم فعل الغربلة وتنقية المكان من أطلال التلوث الإنساني والتمتع بالحاضر؛ لننتج لنا حضارة وسط حضارات العالم المتقدم. ثمة عزيمة حمقاء على فعل التكرار والنواح والاستهلاك والتبرير والتفريق الأقرب إلى جوهر العنصرية في إعادة مضغة أطلال المكان التاريخية التي تم تلبيسها الثوب الديني في غفلة من العقل الناقد؛ لتهيج العامة وإثارة مشاعرهم الدينية، ومن ثم تأصيل فكرة الحقد وكراهية الآخر المخالف لمذهبي وديني، وقتله بأريحية شديدة باعتبار أنه ثواب وتقرب إلى الله وتطهير المكان منه.

حاول النص القرآني والنص المحمدي أن ينقي عروقنا من الانحطاط العنصري، وأن نعي معنى خير أمة بــ"اقرأ" و"ن والقلم وما يسطرون". لكننا أخذنا صيغة الأفضلية وأدمنَّا فعل أفضل التفضيل في ترويج هويتنا كأمة تعيش على ثقافة الترهيب بجهنم والذبح الحلال للبشر وامتلاك حقائق الطبيعة وما وراء الطبيعة..!

فلا أحد انتبه أو انتقد إباحة الدم وفكك أيديولوجيتها كإحدى مفردات الفقهاء التي تطبعت مع لغة الأمراء والملوك والخلفاء في الزمن الأغبر وحتى زماننا الراهن في الترويج لثقافة الدم والتفجيرات التي بدأت في مصر، وانتقلت إلى سوريا، وانطلقت من العراق وتستقر الآن في اليمن، وتتكرر كل يوم في فلسطين المنسية، وفجرت العشرية السوداء في الجزائر، ونكحت الجهاد من تونس، وعانت منه ليبيا، ولم ولن تنجو منه بلد عربي.

الدم دم ضمائرنا التي رأت ذلك الخراب في أجساد المسلمين في بلاد عربية أولا. فهُنّا على أنفسنا يوم أمسكنا الأقلام وسطرنا كتب التاريخ التليد والمعاصر بتبرير هذه الدماء، ومن هنا يجب أن نبدأ بإنعاش إنسانيتنا وإرثنا لتصحيح مسار واقعنا كي نعيش بلا دم مسال ولا تكرار حوادثه!.
فلا تستهينوا بمكر(ن والقلم وما يسطرون)...
الجريدة الرسمية