رئيس التحرير
عصام كامل

أفضل تأمين صحي في العالم.. بتكلفة أقل!


دائما أسأل نفسي لماذا لا نبدأ من حيث انتهى الناجحون؟ ولماذا نصِّر على اختراع العجلة؟! وكم تكلفنا تذاكر الطيران لنسافر ونرى تجارب الآخرين الناجحة لنطبق مثلها أو ننفذ ما هو جيد منها ونطوره للأفضل؟

 الصحة والمسكن والتعليم مشكلات مزمنة أمام حكوماتنا المتعاقبة التي من وجهة نظري مازالت محدودة الأفق أو قصيرة النظر ولا ترى إلا ما تحت قدميها!

لقد جبت العالم بحثًا عن التجارب الناجحة خاصة في الصحة والتعليم والاقتصاد. وقدمت في مقالين سابقين تجربتين ناجحتين في مجال الصحة من "كوستاريكا" و"تايوان"، واليوم أقدم لكم أروع نظام صحى واجتماعي في العالم، يوفر للمريض العلاج المحترم في مستشفيات غاية في الروعة والجمال، ويؤمن له المسكن والمعاش!

تصورت أن الدولة تدفع بلايين الدولارات لهذا النظام، ولكني وجدت الدولة لا تصرف -كنسبة من الدخل القومي- أكثر مما نصرف في مصر فتعجبت وفتحت فاهي وأنا لا أصدق!..

جلست مع مسئولي وزارة الصحة وحاورت العشرات من الأطباء والمواطنين لأعرف سر عبقرية هذا النظام المحكم الذي يديره شباب في الثلاثينيات والأربعينيات من العمر في سنغافورة، ووجدت الكل سعيدا ومبتهجا بهذا النظام، بل ويرغب في تطويره للأفضل!

في هذا النظام المبتكر يدفع الشخص ١٨-٢٠% من دخله الشهري مقابل الصحة والمسكن والمعاش، وتدفع جهة عمله مبلغًا مماثلًا تمامًا (أي إن المجموع يقابل ٣٦-٤٠٪؜). يوضع هذا المبلغ في صندوق خاص باسم الشخص وليس عند الدولة!!! هذا الصندوق مقسم بالتساوي إلى ثلاثة أجزاء تسمى Medifund وهو ما يستخدم للعلاج الطبي، Medisave وهو إدخار إجباري يستخدم فقط لدفع مقدمات السكن أو فروق العلاج إن زادت أو لشراء تأمين صحى إضافي..

و Medishield وهو الجزء الأخير الذي لا يمكن الصرف منه لأنه فقط ادخار للمعاش، ولأوجه صرف محددة جدًا وعند سن محددة.

لذا فقد وفرت الدولة أموالها المهدرة على تأمين قد يُساء استخدامه وإدارته، وبنت بميزانية الصحة مستشفيات في غاية الأناقة والجمال، وسلمتها لإدارة خاصة تشغلها على أعلى مستوى من الجودة. فالعلاج فيها ومرتبات أطبائها تأتي مباشرة من صناديق المرضى التأمينية السابق ذكرها، وبفاتورة كالقطاع الخاص. ولكن تكلفة العلاج منخفضة لأن الدولة دفعت ثمن السرير والأجهزة، والمريض يدفع فقط من كروته التأمينية أجر الطبيب والأدوية فقط.

وجميع المستشفيات بثلاثة أبراج A B C تختلف تكلفة العلاج فيها، ولكن لا تختلف جودته، ففي برج A لكل مريض غرفة منفصلة ومكيفة، وفِي برج B أربعة مرضى في غرفة واحدة ومكيفة، وفِي برج C ستة مرضى في غرفة كبيرة ورائعة، ولكن بمراوح وتدوير للهواء لخفض التكلفة.

ويختار المريض عند دخول المستشفى أي برج منهما حسب ادخاره في صندوق التأمي،ن مع إمكانية التغيير لاحقًا حسب ميزانيتك والأموال في صندوقك، فكله من أموالك أنت وليس من مال الدولة، ويمكن للأسرة أن تشارك بعضها في صناديقها، فيمكن للابن أن يعالج والديه، والزوج أن يعالج زوجته من صندوقه، والأدوية أيضا من هذا الصندوق دون تدخل من الدولة.. فكل مواطن يحمل كارتًا يصرف منه من ماله المدخر.

إذًا ماذا تدفع الدولة للصحة؟.. فبجانب بناء المستشفيات وصيانتها، تقوم بدفع النسبة المقررة على حدها الأدنى لمن لا يملك بعد دراسة اجتماعية مستفيضة لكل حالة، كما تدفع في بعض الأحيان فوارق العلاج إن لم يكن في طاقة المريض بعد استنفاد صندوقه الادخاري، وبعد دراسة اجتماعية لحالته. أما عن المستشفيات وروعتها فلها حديث آخر!

توفر الدولة قروضا للمساكن على ٢٠-٣٠ سنة بضمان الراتب وبفائدة معقولة ويدفع المواطن ١٠٪‏ كاش من كامل المبلغ، والباقي قرضا من البنك، ويمكنك أن تستخدم صندوق Medisave لدفع المقدم فعادة لا تحتاج للكاش. شيدت الدولة آلاف المباني الأنيقة التي تحيط بها الحدائق بارتفاع ١٤ دورًا وبمساحات شقق بين ١٠٠-١٥٠ مترًا مع مصاعد متطورة وجراج خاص متعدد الطوابق، لكل مجموعة تؤجره للسكان بأجر موحد. كانت النتيجة أن ٨٠٪‏ من الشعب يسكن في هذه المباني ويتملكها، وإن كان هناك العديد من المباني بنفس الشكل للإيجار. ما هذه الروعة في التخطيط العمراني وكفاءة الإدارة.

انخفضت البطالة إلى أقل من ٢٪‏ لأن كل فرد يطمح في الحصول على السكن والعلاج والمعاش، فليست الدولة ماما وبابا إلا لمن يستحق. لا يوجد "عواطلية" وأرزقية وطفيليون فليس لهم مكان في العلاج والسكن والحياة بدون هذه الصناديق الإجبارية، فتحولوا جميعًا للصناعات الصغيرة والمتوسطة أو الخدمة في الدولة كرفع القمامة أو تهذيب الأشجار أو رصف الطرق.

تقدمت الدولة لأن بها عقولا تفكر وتبتكر دون إرهاق لميزانية الدولة، وبعدالة اجتماعية وسلام داخلي لم أر مثله في أي مكان بالعالم. ليتنا ندرك؟
الجريدة الرسمية