رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

المهنة.. شهيد


يموتُ ليحيا غيرُه، يُعرِّضُ نفسَه للتهلكة من أجل آخرين لا يعرفهم، يُقدِّم نفسه رخيصة ليفتدى بها أرواحًا ربما كانتْ للموت أقرب. هو نموذج حىٌّ للتضحية في صمتٍ. لا يعلم أحدٌ عنه شيئًا طوال حياته، وليس في استطاعته أن يخرج للإعلام ليخاطبَ الرأى العام عن إنجازاته وبطولاته.


لا نعرف اسمه إلا عندما يلقى ربه شهيدًا. يومئذ نرمقُ صورته الناطقة بالحيوية في أسىَ، نترحمُ عليه في ألمٍ، نُثمِّن بطولته النادرة، نُعزِّى أسرته، نبكى قليلًا ونتباكى كثيرًا، وعندما يُرخى الليل سدوله يتوهُ اسم البطل المغوار في غياهب النسيان، لننشغلَ عنه بتوافه الأسماء والشخصيات وأدعياء البطولة والذين تسكنهم شهوة الشهرة ونجوم الزمن القبيح والقواعد من الراقصات وأجساد العاريات.

عن "ضابط المفرقعات" يدورُ الكلامُ. الرائد "مصطفى عبيد" الذي انفجرتْ فيه عبوة ناسفة مساء السبت الماضى، فنقلته في لحظةٍ غادرةٍ من "خانة الأحياء" إلى "قوائم الشهداء". لن يكون الأخيرَ، فسوف يتبعُه بإحسانٍ رفقاءُ آخرون، كما أنه ليس الأولَ، فقد سبقه آخرون، استشهدوا في صمتٍ، تاركينَ من خلفهم أطفالًا صغارًا لم يشبَّوا عن الطوقِّ بعدُ، وزوجة بائسة وأمًا ثكلى وأبًا مكلومًا.

جسَّدوا بطولاتٍ إنسانية بلا ضجيج. هذه ليست مهنة تقليدية، ولا وظيفة نمطية، ولا مهمة روتينية. قليلون فقط مَنْ يُقبلون عليها، وكثيرون يحجبون عنها. عددُهم محدود، ودورُهم مطلوبٌ، وحضورهم واجبٌ لتأمين المنشآت المهمة والمزارات السياحية والاحتفالات الكبرى والمؤتمرات الضخمة ودور العبادة. لا غنى عنهم في زمن الإرهاب لإخماد القنابل الغادرة قبل انفجارها، ولطرد الموت قبل أن يغتال المسالمين والأبرياء وعابرى السبيل.

ورغم ما يكتنف تلك الوظيفة من مُغامرة مُحققة وخطورة مُحدقة، فإن هناك شروطًا قاسية لمن يتم قبوله بها، أبرزها: أن يكون في ريعان شبابه، وأن يخضع لدورات تدريبية هائلة داخل مصر وخارجها، ليكون قادرًا على التعامل مع المفرقعات والقنابل البدائية والمُطورة، وفضلا عن ذلك يكون مُحبًا لوظيفته التي تضطره إلى العمل في أحضان الموت والتحول إلى أشلاء ممزقة في لحظة.

إنها وظيفة لا تحتملُ الخطأ، فالخطأ الأولُ هو الأخيرُ ولا شئ بعده. ضابطُ المفرقعات يخرج من بيته صباحًا، وهو يدرك أن احتمالات استشهاده وغيابه الأبدى يفوقان احتمالات عودته إلى منزله وأسرته في المساء. لمثل ذلك فليتنافسْ المتنافسون. لا أعلمُ خبيئة نفوس الكلاب الغادرة التي تُصنِّعُ تلك المتفجرات وتلقيها في الطرقات والشوارع وأمام دور العبادة لاصطياد أرواح الأبرياء من الأطفال والنساء والرجال.

وما طبيعة مشاعرهم عندما تتطايرُ الرءوس وتنفجرُ الدماءُ وتنهمرُ في كل مكان. هل خُلقوا من طين أم خُلقوا من نار؟ وحتى يأذنَ اللهُ بقطع دابر الإرهاب من بر مصر، وتضع الحربُ معه وضده أوزارها.. سوف يبقى "ضباط المفرقعات" في رباطٍ حقيقىٍّ، يقاومون الموتَ نيابة عن غيرهم بأفئدةٍ من فولاذٍ وإرادة من حديدٍ، فسلامًا عليهم وهم أحياءٌ، وسلامًا عليهم يوم يُستشهدون، وسلامًا عليهم إلى يوم يُبعثون، يومَ يقومُ الناسُ لرب العالمين، ليسقىَ كل ساقٍ مما سقى، ولا يظلمُ ربك أحدًا.
Advertisements
الجريدة الرسمية