رئيس التحرير
عصام كامل

ماكينة السياسة في إيران


سر قوة إيران يكمن في حيوية نظامها، وليس في تسليحها؛ فهناك دول عربية لديها من الأسلحة ما لا تزخر به جيوش دول كبرى.. ديناميكية النظام الإيراني اختلفت أو اتفقت معه  هي المعيار الحقيقي لقوته؛ فمن يتابع نقاشات السياسة والصراع القائم بين الإصلاحيين والأصوليين يدرك أنه أمام حالة وعي كبرى بما يجرى على الأرض، ولعلي أضرب مثالًا بما خرج به وزير الخارجية على الملأ من تصريحات لو صدرت في عاصمة عربية لأخرجته من الحكومة، وربما حاكمته على فعلته فماذا قال وزير الخارجية الإيراني؟


فاجأ "محمد جواد ظريف" وزير الخارجية الإيراني الجميع بقوله: "إن عمليات غسل الأموال في إيران حقيقة واقعية قائمة، وكثيرون ينتفعون من وراء ذلك، وهم بالتأكيد لديهم القدرة على إنفاق عشرات أو مئات المليارات لإفشال قوانين مكافحة غسل الأموال".

وما أن انتهى الرجل من تصريحاته الصاروخية حتى انقلبت الدنيا، ودارت معركة بين جميع الأطراف استخدمت فيها كل الأساليب لترهيب الرجل، ووصل الأمر إلى السلطة القضائية التي طالبت ظريف بالرد وتقديم ما لديه من أدلة ومستندات على ما قال.

أدرك الرجل أنه دخل عش الدبابير، وقال في تصريحات تالية: إنه لو كان يملك الأسماء فإنه لن يدلي بها ولن يبوح بما لديه.. غير أن السلطات القضائية اتخذت الإجراءات الرسمية لإجبار الوزير على الرد أو التراجع.. رد الوزير بلغة دبلوماسية وبشكل رسمي إلا أن السلطات القضائية لم تقتنع بما قدم، ومنحته مهلة أخرى للرد الشافي على تساؤلاتها، ولم يكن بعيدًا عن خط المواجهة برلمان الدولة الذي جهز بعض أعضائه لاستجواب الوزير.

المحسوبون على الأصوليين أردوا استجواب الوزير واتهام وزارته بالتقاعس في اختيار مفاوضيه في أثناء الاتفاقيات والمعاهدات الدولية واختيار عناصر ضعيفة، من شأنها إضعاف موقف الدولة الإيرانية، إضافة إلى اتهام الوزير باختيار عناصر دبلوماسية وبعثات دون المستوى لدى الدول التي تربطها علاقات وطيدة بإيران، وضربوا مثالًا على ذلك ببعثة إيران في الصين، وهو الأمر الذي لا تزال تقاومه قوى أخرى في المجتمع السياسي الإيراني.

الوزير "ظريف" أراد بتصريحاته أن يحلح موقف المتشددين في الإدارة الإيرانية، وعلى رأسهم مجلس صيانة الدستور بسبب موقفهم الرافض للتوقيع على معاهدة مجموعة العمل الدولية "إف إيه تي إيه" والخاصة بمكافحة غسل الأموال وما يصاحب ذلك من أحاديث جانبية عن استفادة الأصوليين من عمليات غسل الأموال في دعم الإرهاب وتسليح قوى خارجية وتهريب المخدرات بشكل ممنهج.

عدم تدخل الرئيس "روحاني" في الأمر وتجاهله ورفضه التعليق على الأمر دفع القوى الأصولية إلى اتهام الرئيس بأنه هو من دفع وزير خارجيته للإدلاء بهذه التصريحات، خاصة الحرس الثوري المتهم الأول في عمليات غسل الأموال، وربما جاء عدم تدخل الرئيس شخصيًّا في الأمر كعملية هروب من مواجهة حقيقية بينه وبين الحرس الثوري الذي يقود الهجوم ضد الوزير الذي فاجأ الجميع بتصريحاته، خاصة أن تيارات اتهمت الوزير بالعمل ضد مصالح البلاد، وبالخيانة لإضعاف موقف إيران أمام المجتمع الدولي.

كل هذه التفاصيل وهذا العراك السياسي وتبادل القذائف على صفحات الصحف وفي البرلمان وكل مؤسسات اتخاذ القرار تؤكد أنك أمام نظام قوي بحيويته وقبوله للخلاف وإدارة هذا الصراع سياسيًّا بعيدا عن الانقلابات أو توحيد الصوت بالقوة، وهو في ظني ما يمنح إيران قدرتها الحقيقية على أن تكون فاعلًا سياسيًّا مهمًا في محيطيها الإقليمي والدولي؛ إذ ليس هناك أقوى من أن يخرج وزير الخارجية ليتهم أطرافًا في النظام الإيراني بالضلوع في جريمة غسل الأموال لتحقيق أهدافه!!
الجريدة الرسمية