رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

أسطورة «اختلافهم رحمة»!!


منْ الأقوال المأثورة التي يرددُها العوامُّ، بل وأحيانًا خُطباءُ المنابر، وتجري مَجرى الحديثِ النبوي الشريف قولُهم: "اختلافُهم رحمَة"، هذا ليسَ حديثًا صحيحًا، أكثرُ الفقهاء تشددًا مثل: "ابن باز" قطعَ بأنه ليسَ من كلام الرسول الخاتم، ولا لأحدٍ من صحابتِه الكِرام، بلْ هوَ قولٌ منسوبٌ لأحدِ التابعين، واتفقَ معه في ذلك عالمُ الحديثِ الأشهرُ "الألباني"، ولم تثبتُ صحةً الحديثِ المزعوم في أي كتابٍ من كتُب الأحاديث المُعتمدة.


لكنْ معَ تعاقُبِ السنينَ صارتْ تلكَ العبارةُ حديثًا يتخذُه الجهالُ تكئة لنشر جهلِهم وتبرير اختلافاتِهم، أقوالٌ كثيرة تجري على ألسنةِ الناسِ، ويتمُّ تداولُها في الأعمال الفنيةِ ووسائل الإعلام المُختلفةِ باعتبارها أحاديثَ نبوية لا تقبلُ شكًَّا، وقواعدَ نبويةً ثابتةً يجبُ البناءُ عليها، وهي ليستْ كذلك.

"الجنَّةُ تحتَ أقدامِ الأمهات".. ليسَ حديثًا، "تخيَّروا لنُطفِكم فإنَّ العِرقَ دسَّاسٌ".. ليسَ حديثًا، "اطلبوا العلمَ ولو في الصِّين".. ليس حديثًا، "يُدعى الناسُ يومَ القيامة بأمهاتِهم سِترًا منْ اللهِ عزَّ وجلَّ عليهم".. ليسَ حديثًا، "أبغضُ الحلال عندَ اللهِ الطلاقُ".. ليس حديثًا ولا قرآنًا كما نشاهدُ في الأعمال السينمائية، إحداها بتوقيع المؤلفِ الكبير "وحيد حامد" بكل أسىً وأسفٍ.

المُسلمونَ يُعانونَ جَهلًا بغيضًا في شئون دينِهم، لا يبذلونَ الجهدَ لتعلُّمِه والاستزادةِ منه، لديَهم أولوياتٌ أهمُّ منْ الدينِ، يتركونَ أنفسَهم وذويهم فريسةَ لـ"هواةِ المنابر" و"مُرتزقةِ الأديان"، كثيرٌ منْ الدُّعاةِ والأئمةِ يبررون تعدُّدَ الفتوى وتضارُبَها وتناقُضَها في المسألة الواحدة بهذا الحديثِ الوهمىِّ: "اختلافُ أمتى رَحمة" أو "اختلافُهم رحمة"، ليس في الاختلافِ رحمةٌ، الرحمةُ في الاجتماع والاتفاق.

الاختلافُ جعلَ أمَّة الإسلام فِرقًا وشِيعًَا.."فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا، كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ"، الاختلافُ مزَّقَ أمَّة الإسلام، فلمْ تعدْ خيرَ أمةٍ، بلْ انسلختْ إلى الدركِ الأسفل منْ الأُمم أخلاقًا وحَضارةً وتمدُّنًا، الاختلافُ يجعلُ الحلالَ حرامًا، والحرامَ حلالًا، والحقَّ باطلًا، والباطلَ حَقًا، والفرضَ سُنَّة، والسُّنة فرضًا، والواجبَ جائزًا والجائزَ واجبًا، والمُباحَ مكروهًا، والمكروهَ مُباحًا، الاختلافُ أهدرَ كلمة المُسلمينَ، فلم تعدْ كلمتهُم سواءً، كما أمرتْهم السَّماءُ، بلْ صارتْ كلماتٍ شتَّى ومُتضادةً ومُتداخِلةَ، لو كانَ هذا الاختلافُ موجودًا في زمن النبىِّ الكريم ما تركَ صناديدُ الشركِ دينهَم إلى دينهِ.

الاختلافُ قد يكونُ مقبولًا ومحدودًا فيما استجدَّ منْ مسائلَ وإشكالياتٍ وقضايا لم تكنْ مَوجودة مع نشأةِ الدعوة، أمَّا أنْ يكونَ الاختلافُ قائمًا في كلِّ مسألةٍ، وفي كلِّ إشكاليةٍ، وفي كلِّ قضيةٍ، وفي كلِّ فتوى، إنهم يختلفونَ في غُسل الجنابة، وتغسيلِ الموتى والوضوءِ والتَّيمُم!

هذا لا يُنشئُ دينًا، بلْ يخلقُ عالمًَا منْ الفوضى، وهل هُناك أمَّة أكثرُ فوضى منْ أمةِ المُسلمين في العصر الحديثِ؟ هذا الاختلافُ هوَ الذي جعلَ نحرَ الرءوس وإزهاق دماء الأبرياء جهادًا وفريضة يتعبدُ بها القتلة المُجرمون، هذا الاختلافُ هو الذي صنعَ من المُنتسبين إلى الإسلامِ جماعاتٍ مُتنازعةٍ ومُتحاربةٍ ومُتطاعنةٍ، هذا الاختلافُ هو الذي جعلَ الدينَ الخاتمَ أديانًا عِدَّة، كلُّ دين يُكفِّرُ الآخرَ، وكلُّ دين يُبشِّرُ مُنتسبيه وأتباعَه بالنعيم المُقيم والحورِ العين، ويُنذرُ الآخرينَ بالويلِ والثبورِ وعظائمِ الأمور.

الإسلامُ دينٌ واحدٌ وليسَ حِزمةً من الأديان، و"محمدٌ" هو – وحدَهُ- رسولُ هذا الإسلام، لم يقاسمْه الرسالةَ رسولٌ غيرُه، وليس لـ"إمامٍ" أو "مُلَّا" أو "شيخ طريقة" أنْ يُعدِّلَ على ما تركه النبىُّ. وحىُّ السماءِ انقطعَ عن الأرضِ منذُ وفاة رسولِ الإسلام. صارَ في الإسلام مِللٌ ونِحَلٌ شتَّى، وفي الملَّةِ الواحدةِ اختلافاتٌ لا تنتهي.

نبىُّ الإسلامِ حذَّرَ منْ تفرُّقِ المُسلمين وتشرذُمِهم مِنْ بعدِه، الحديثُ النبوىُّ الصحيحُ يقولُ: "سَتفترقُ أمَّتي على ثلاثٍ وسبعينَ فِرقة، كلُّها في النار إلا واحدةً، قيلَ: ومَنْ هي يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: ما أنا عليه وأصحابي". إذنْ.. نبىُّ الإسلامِ يقطعُ بأنَّ مُعظمَ الطوائفِ والجماعاتِ المنسوبةِ إلى الإسلامِ سوفَ يكونُ مصيرُها إلى النار، لأنَّها خالفتْ صحيحَ الإسلام، واتبعتْ أهواءَها.." وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ".

الذينَ يدافعونَ باستماتة عنْ مشروعيةِ الاختلافِ، لا يشغلُهم أمرُ الدين في شئٍ، إنما تشغلُهم مصالحُهم الشخصية ومصادر رزقهم الواسعة. الاختلافَ هو الذي صنعَ أئمةً لكلِّ طائفةٍ، ومرجعياتٍ لكلِّ جماعةٍ. الاختلافُ جعلَ من الأديان أكبرَ "سبوبة" على مرِّ التاريخ. الحديثُ في هذا الأمر يطولُ ولا تكفيهِ بضعةُ سُطور، ولكن ما دفعنى إلى طرح هذهِ القضيةِ هو تجدُّدُ اللغطِ والجدلِ حولَ موعدِ صلاةِ الفجر.

تخيلوا بعد 1440 عامًا هجريًا على نشأةِ الإسلامِ، يتجادلُ مُسلمونَ على موعدِ صلاةِ الفجر، هلْ هىَ في موعدِها المُتعارفِ عليه، أمْ بعدَهُ بـ 20 دقيقة أم أكثرَ أمْ أقلَّ؟ السَّلفيونَ لم يترقبوا حسمَ هذا الجدل البغيض ولم ينتظروا رأيًا قاطعًا من الأزهر الشريف بعدَ إحالةِ الأمر إليه مؤخراَ، بلْ حَسموا الأمرَ منْ تلقاءِ أنفسِهم الأمَّارةِ بالسوءِ، وراحوا يذيعون أذانَ الفجر على فضائياتِهم الخاصة مُتأخرًا ثلثَ الساعةِ عن توقيتهِ المعهودِ.

المؤسفُ.. أنَّ المُختلفينَ -هذه المرَّة- ينتمونَ إلى جماعةٍ واحدةٍ وينطوونَ تحتَ لوائها ويستظلونَ بظلِّها، وهى التي تُطلقُ على نفسِها: "أهلَ السُنَّة والجماعةِ". أرأيتمْ إلى أينَ وصلَ بنا الاختلافُ، الذي تسمونَه "رحمة"؟ الاختلافُ ليسَ رحمةً، بلْ لعنة عواقبُها وخيمةٌ.

تهافتُ الاختلافِ يهزُّ صورةَ الدين ولا يُرسِّخُها. أسقطوا الأساطيرَ الدينية، وطهِّروا دينَكم من أصنامِ الكذبِ والتدليس والاسترزاق، استئصِلوا منه التخاريفَ والأوهامَ والأباطيلَ، ثمَّ أعيدوه إلى سِيرتَه الأولى "دينًا قِيمًَا".
Advertisements
الجريدة الرسمية