رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

حلويات خالتي «أم نزاهة»!

وفي رحاب الجمال كانت هذه السيدة العظيمة، البدينة نوعا ما، سيدة قلبي بمعنى الكلمة، فلقد كانت جلستها الدائمة في ركن ظليل بجوار بوابة مدرستنا في المرحلة الابتدائية كافية لإدخال السرور إلى قلبي، وذلك رغم كآبة مدارس الفقراء وافتقارها لأي شيء إنساني، كانت الحلوى، حتى الرخيص منها كالعسلية الشعبية مجهولة المصدر لذيذة الطعم، حلما بعيد المنال عن طفل افتقر أهله فجأة بعد عز تراثي سمع كثيرا عنه من أقاربه ومن الجيران لكنه لم يجربه قط..

فقط جرب فقر انفتاح الرئيس المؤمن السادات، وقيم عصر أحمد عدوية التي جعلت من الجنيه وفقط عنوانا لقيمة الإنسان.. لكن كان جلوس السيدة العزيزة المبهجة الرحيمة الحنونة خالتي "أم نزاهة" في استقبالنا في مدخل مدرستي القومية العربية (الحكومية) لتُبشرنا بالحلوى التي تشبهنا، أو هكذا كانت تروج لها بذكاء وخفة ولطف مقبول منها، كفيلا بإدخال السرور لقلبك وقلبي وقلب كل من يسعده زمانه بالقرب منها، حتى وإن كنت فقيرا مثلي لا تستطيع شراء قطعة حلوى منها.. 

فعلى الأقل سيشتري أحد زملائك ويمنحك قطعة من نصيبه على سبيل تقاسم الفرح كما كنا نتقاسم الحزن إن أكلنا علقة ساخنة من أحد المدرسين لتأخرنا في عمل الواجب، أو الهروب من المعتقل المدرسي للعب الكرة في الشارع الرحب، أو حتى عدم قدرتنا على شراء الأدوات المدرسية الخاصة بمادة ما.. 

حسنا ستُعوضنا الحلوى من يد حبيبتنا أم نزاهة عن كل ألم.. فلتسقط المدرسة بمعلميها وبمن يريدها مقابل قليل من بهجة الحلوى.. وهل هناك بهجة أكبر وأعظم من قطعة حلوى لطفل محروم بعد عز قديم!.. وحتى إن استعرض صديقك الطفل (عيل بردو يا جماعة) بعضا من نذالة محتملة وحرمك من تذوق ما اشتراه، سينالك نصيب من الحلوى المتبقية منها من بعد ما جبرها الله وحققت (التارجت) اليومي وباعت كيسا أو اثنين.. خذ هذه يا حبيبي لك ودون قرش صاغ أو حتى تعريفة!

عاصرت خالتي "أم نزاهة" قرابة الست سنوات ولم أكن أعلم ما اسمها الحقيقي، وحتى الآن لم يخبرني أحد به، لكنها تركت أعظم أثر في مخيلتي عن الإنسان في أبهى وأجمل صورة، فلقد كانت "أم نزاهة" جدة لأطفال أيتام، وفقراء بالطبع، فقدوا أمهم الجميلة الشابة (نزاهة) وهي في ريعان شبابها، أو في قمة ازهارها كما كنت أتخيلها دوما.. 

ماتت (نزاهة) وتركت أطفالا صغارا يحتاجون الكثير والكثير، فتكفلت بهم الجدة التي كانت تعمل عاملة أو (فراشة) بسيطة في إحدى مدارس حي أبو الريش العتيق في دمنهور، كانت تحرص على الحضور قبل ميعاد عملها كي تستقبل الطلاب مبكرا وتبيع لهم حلوى رخيصة يسهم ثمنها القليل في تربية الأيتام الذين تعلقوا برقبتها لأجل غير معلوم.. 

تنتهي من بيع الحلوى فتُهرول إلى الفصول تنظفها وترتب المقاعد لبقية أبنائها من التلاميذ الذين كانت تعتبرهم أحفادًا لها أيضا، وليسوا مجرد زبائن لحلوتها، ثم تنتهي من اليوم الدراسي فتصحب طفلين من أحفادها الأيتام وتحمل الآخر على كتفها، وتسرع لاهثة للسوق لشراء ما تيسر لهم من طعام، ثم تجري بهم عصرا لمن تعرف من المعلمين الطيبين كي يحصل قرة عينيها على دروس خصوصية تضمن لهم التفوق والنجاح، ثم تبيت بجوارهم ليلا حتى يشعروا بالأمان.. (دول أمانة في رقبتي يا عالم).. هكذا كانت ترد دوما لكل من يحاول إظهار الشفقة عليها وهي في عمر متقدم!

لم تعش يوما خالتي "أم نزاهة" في رغد أو رخاء، لم تذهب للساحل الشمالي مثلا الذي كان في علم الغيب حتى رحيلها عن دنيا الفقر والبؤس والظلم.. لم تذهب للتنزه أو حتى لتشم نفسها في الإسكندرية القريبة من دمنهور.. كان الجلوس عصرا على عتبة منزلها البسيط في الحارة يكفي جدا جدا فالأيتام أولى وأحق، لم تخرج لتستجدي أحدا أو تطالب من الحكومة أن تساعدها، كانت تدرك أن الفقراء هم ضحايا بلد يفيض بالثراء للأقوياء وفقط، لم تسع يوما لمقابلة مسئول لاستخراج معاش استثنائي لها ولمن تعولهم.. كانت كرامة وعزة تسير على الأرض.. كانت بحق اسم على مسمى.. نزاهة.. بل أم نزاهة!
fotuheng@gmail.com
 

Advertisements
الجريدة الرسمية