رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

التلبية والرحلة الروحية (2)


لبيك اللهم لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك.. أهلا بك عزيزي القارئ واللقاء الثاني في رحلة الحج المباركة، وكنا قد توقفنا في المقال السابق عند الدخول في رحاب الحبيب المصطفى بالمسجد النبوي الشريف، وتحدثنا على قدرنا المحدود عن صاحب القبة الخضراء والمرقد الطاهر الشريف للرسول الكريم عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسلام، وذكرنا على قدرنا وعلمنا المحدود بعض فضائله وشمائله الكريمة، وأنه لا يعرف قدره العظيم إلا الله، وهذه حقيقة، وذلك لأن قدر النبي العظيم لا يعلمه إلا رب العالمين سبحانه.


وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا يعرف قدري إلا ربي".. نعم صدقت يا سيدي يا رسول الله فإنه لا يعرف حقيقة وعظمة ذاتك وهي أصل النور، ومنها تشعبت الأنوار وظهرت في عوالم الأكوان بدءا بنور العرش والكرسي واللوح والقلم والملائكة والعوالم الملكوتية، ومرورا بنور الشمس والقمر عند اكتماله والنجوم والأفلاك ، انتهاء بعوالم غيبة لا يعلمها إلا من شاء له الله عز وجل.

والدلالة على ذلك ذكر الحق سبحانه لحضرته عليه الصلاة والسلام بصفة النور، وتقديم حضرته على القرآن، وهو كلام الله تعالى،وذلك في قوله سبحانه: "يا أيها الذين آمنوا قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين"..

هذا وفي قوله تبارك في علاه: "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا"... هذا وإذا تخيلنا كائن خلقه الله تعالى له سبحانه واصطفاه له تعالى من دون سائر المخلوقات واتخذه له سبحانه حبيبا، إذا تخيلنا وتصورنا أي كمال أقامه ربه تعالى فيه.. وأي جمال أقامه بارئه سبحانه فيه.. وأي جلال أقامه خالقة ومصطفاه فيه..

اعتقد يقينا أن لغة الوصف لدى الواصفين تقف عاجزة تماما عن الوصف والتعبير، وأبلغ ما قيل ما قاله البوصيري في قصيدته الشهيرة بالبردة... قال:
 وكيف يدرك في الدنيا حقيقته       قوم نيام تسلوا عنه بالحلم...
 وقول القائل:
 خلقت مبرءا من كل عيب      كأنك قد خلقت كما تشاء

هذا وإذا نظرنا في وصف الحق لحضرته في القرآن الكريم لندرك أنه صلى الله عليه وسلم عين الكمال وكمال الكمال، وبه ظهر الكمال، وكذلك عين الرحمة الإلهية لقوله تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"... هذا ولقد شرف الإنسانية بحضرته بانتسابه إليها، وفي الحقيقة أن الإنسانية هي التي تنسب إليه فهو الذي جلاها وأظهر كل ما فيها من رحمة وخلق ومكارم وفضائل ومحاسن وقيم إنسانية نبيلة، وذلك من خلال كل ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم، قولا وعملا وفعلا وحالا وسلوكا..

هذا ولم تفارق الإنسانية في أطوار حياته، ولم تقصر على البشر فقط، وإنما شملت جميع الخلق بما في ذلك الأعداء والخصوم، وظهرت في وقت الحرب والقتال، ولعل في وصيته الكريمة لجيش المسلمين عند خروجهم للقتال أكبر دليل على ذلك، حيث قال فيها: " أوصيكم بمن معكم من المسلمين خيرا. لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تنقضوا عهدا، ولا تقتلوا وليدا ولا امرأة ولا شيخ فانيا ولا منعزلا بصومعة ولا تهدموا بناءً ولا تقطعوا شجرا.. ولا تقربوا نخلا ولا تفسدوا أرضا"..

هذا ولقد كان صلى الله عليه وسلم بحق خلقه القرآن، بل كان قرآنا يمشي على الأرض.. هذا وفي مشهد جامع ليلة الإسراء يظهر الحق سبحانه وتعالى قدر النبي ومنزلته ومكانته عنده وبين عوالم الخلق، ففي هذه الليلة جمع الحق سبحانه خلاصة الخلق وصفوتهم، وأحبهم إليه تعالى وهم السادة الأنبياء عليهم السلام، وأوقفهم من خلفه في صلاة خاصة، وكان لهم إماما..

هذا وفي الحقيقة إن لهذا الجمع سر عظيم، وهو إقرار السادة الأنبياء بإمامته لهم، وبأنه قائد ركبهم الشريف والإيمان بحضرته ونصرته، ولكي نوضح ذلك نعود إلى المشهد الروحي الذي كان في عالم الذر والعهد والميثاق، حيث استخرج الحق سبحانه بقدرته أرواح بني آدم من ظهر أبيهم آدم عليه السلام، وأخذ عليهم إقرارا وعهدا وميثاقا واعترافا بربوبته عزوجل: "ألستم بربكم قالوا بلى شهدنا"..

ثم اجتبى واصطفى وأختار بعلمه سبحانه مائة وأربعة وعشرين ألفا من بين الأرواح وهي أرواح الأنبياء عليهم السلام، وأخذ عليهم عهدا وميثاقا خاصا بمحبوبه صلى الله عليه وسلم، وهو ما جاء في قوله تعالى: "وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فأشهدوا وأنا معكم من الشاهدين"..

كان ذلك في عالم الروح، فلما خلقهم الله وألبسهم أثواب البشرية أراد سبحانه أن يجلي ذلك العهد الذي أخذه عليهم، فجمعهم لحضرته عليه الصلاة والسلام في المسجد الأقصى في ليلة الإسراء والمعراج حتى يؤكد سبحانه إمامة الحبيب لركب عوالم الوجود وفي مقدمتهم صفوة خلقه وهم السادة الأنبياء..

عزيزي القارئ نستكمل اللقاء في رحلة التلبية والحج بمشيئة الله تعالى في المقالات التالية، ولكم مني من الحرم الشريف خالص الدعوات ولمصرنا الحبيبة. ولبيك اللهم لبيك..
Advertisements
الجريدة الرسمية