رئيس التحرير
عصام كامل
Advertisements
Advertisements
Advertisements

كَتاتِيبُ سِرِيّة!


دائمًا كنت آراها نموذجًا مختلفًا للمرأة التي لعبت دور الأم والأب معًا. ربما رآها أهل القرية أنها "هَبْلَة" فكيف تترهبَن في "كهف" أبنائها، وهي في ريعان الشباب.. وكانت حين تُسئَلُ عن سِر رَهبانيتها تقول "مات أحدُنا.. وكان لزامًا على الآخر أن يُكمِلَ الطريق!


"سِرِيّة" هو اسمها الذي عرفناها به.. كانت تلبس دائمًا ثوبًا أبيضَ.. بعكس كل نساء القرية اللاتي كن يرتدين الثياب السود حتى في لحظات الفرح.. وكانت "سِرِيّة" لا تشتري من الطيور سوى ذوات اللون الأسود.. وإذا رزقت بطتها ببطة بيضاء؛ تحرص دومًا على بيعها.. وكانت حين تجلس بين طيورها لتُطعمها.. تُشعرك وكأنك أمام "وردة حزينة" قلبها أبيض، يلتف من حوله السواد!

ربما حاولتُ وأنا طفل رسم صورتها بملامحها المصرية الأصيلة.. وبشرتها البيضاء الناعمة رغم "الطَل" الذي كانت تنام فيه، فلا يعزلها عن شمس الصيف وصقيع الشتاء سوى بعض شواشٍ من جريد النخيل وأعواد الدُّرة اليابسة.. وأذكر أنني سألتها يومًا: لماذا البَط الأسود يا خالة؟! فقالت: لكراهية الناس لها؛ لا لشيء سوى لأنهم سود!

ملعونة هي البطة البيضاء التي فرَّقت بين أبنائها فدللت الأبيض وألقت بأبنائها السود في النهر! لكنها يا خالة تلك هي سُنة الله في الكون؟! فقالت: نعم سُنة الله في الكون التي احتقرها الإنسان بأنانيته المفرطة.. وأرجع ظلمه لميلهِ العاطفي.. وبرَّر ظلمه بتسـاؤل غبي: كيف يُحاسب الإنسان على ميل مشاعره؟!

كانت "سِرِيّة" لا تذبح أبدًا البط الذي تقتنيه.. ربما كانت تبيعه لكنها كانت لا تأكله.. وكانت تبرر ذلك فتقول: كيف آكل أرواحًا جاءت إلى الدنيا على يَدَي.. كانت تشاركني النوم على فرشتي.. كنت ألاعبها وتداعبني بمنقايرها الصغيرة.. أشعر وكأنني حين أفكر في ذبحها بأنني قد تحررت من كل مشاعر الإنسانية.. وكثير ما أثور على الإنسانية، حين أرى الإنسان يقتل أخيه معللا جريمته بطاعة الله ! فنظر إليها واحدً من صحبتها شذرا.. وقال: تفتى "سِريّة" بما يغضب الله، ولو أنها خرجت بمنطقها هذا إلى الناس لدعتهم إلى تقديس "البط" فقلت له: تعقل يا رجل وتدبر معي.. أيهما أقرب إلى الله وأحب.. شخص رَقَ قلبه لـ"بطة" فلم يذبحها، وآخر لم يرق قلبه لمقتل أخيه الإنسان!

لم تكن "سِرِيّة" يومًا من طلاب التعليم النظامي.. وكانت إذاعة القرآن الكريم هي المدرسة التي تخرجت فيها "سِرِيَة". وحين كنا نسألها ماذا تعلمت من الإذاعة يا خالة؟ فتقول: لا شيء.. سوى كيف أُفكر!

وربما في إجابتها تلك "نَبشٌ" في سر أزمة تخلف "التعليم" في بلادنا.. الذي صار مكانًا لحشو العقول بمعلومات أغلبها لا يفيد.. فأذكر أنه حين وزعت المدرِّسة "جدول الضرب" على طلابها.. وجئنا إليها زمرة كى تراجع لنا ما حفظناه من الجدول.. هرولت " سرية" إلى المدرَسة وقالت لناظرها بغضبٍ شديد: لمِا تشوهون عقول أبنائنا؟! لماذا لم تعلموه فقط جدول "2" وتجعلونه يستنبط جدول " 12"؟، فقال لها الناظر: لا تنسى يا سرية بأنك في مدرسة حكومية وليست خاصة.. وأنكِ في مصر ولستِ في أوروبا.. فقالت: حقًا.. نسيت بأننا أبناء البطة السوداء!

وبمجرد أن عادت إلى المنزل أرسلت ابنها إلى الحقل ليعمل مع عمه في الزراعة. وقالت: لا مستقبل لـ "التعليم" في بلدٍ "يُظَغطُ" فيه "الأطفال" بالمعلومات في الفصول.. كما يُظَغطُ "البط" بالفول في الحظائر!

لم تشارك "سِرِيّة" يومًا في انتخابات برلمانية ولا غيرها.. وحين كنا ندعوها للذهاب إلى صناديق الاقتراع تقول: أنا امرأة بسيطة، لا أعرف حتى أسماء المرشحين.. ومن ثم فإن إبطال صوتي خيرٌ للوطن من مَنحِهِ لمن لا يستحق!

كثيرًا ما كان شباب قريتنا يهزأ بها وبنا؛ معللًا سخريته منها بأنها سلبية، ولعزوفها المتكرر عن المشاركة -ولو بالرأي- في أي قضية سياسية.. إلا أن "سِرِيّة" كان لديها وجهة نظرٍ مغايرة، فترى أن أبناء البطة البيضاء عادة ما يتعلمون العوم بحثًا عن مُتعة السباحة؛ بينما يتعلم أبناء البطة السوداء العوم حرصًا على الحياة فلا يشعرون أبدًا بمتعة العوم! وحين كنا نُلِحُ عليها بالمشاركة تقول: لكلٍ منا قضيته التي تشغله.. اذهبوا أنتم فدافعوا عن قضياكم كما تعلمتم في مدارسكم.. ودعوني أدافع عن حق البط الأسود في البقاء كما علمتنى الحياة!

قلَّما كنا نشاهدها تضحك.. وحين تبتسم تفيض عيونها بالدموع.. كانت امرأة "أُمِيّة" لكنها كانت مُثقفة.. كنا نترك  كُتَاب الشيخ شحاته" التي كان يُحَفِظُنا فيها "القرآن" بالعصا دون تفسير.. ونذهب لخالتي سِرِيّة لنتعلم منها الحياة من خبرتها في تربية البط!

كنا نلوم الدنيا بأن جعلتنا أبناءً للفقراء.. لكن سِرِيّة كانت دائمًا تزرع فينا الأمل وتخبرنا بأن الغد ليس ملكًا للبط الأبيض.. فعادة ما يبدأ الناس في الذبح بما يُعجَبُون! وأن الفقراء لا يملكون رفاهية التعلم بالتجربة والخطأ.. ففى خطأ الفقيرِ موتُه!

ودائمًا ما يشعر الفقراء بأنهم على حافة الهاوية.. وأن الخوف من السقوط يفضي بهم دائمًا إلى النجاة! وأن أقصى أحلام لأبناء الفقراء هي الهروب من واقعهم الأليم إلى واقع أقل قسوة.. بعكس أبناء الأغنياء الذين عادة لا يطمحون لأكثر مما هم فيه!

لذا فعادة تراهن الأمم الناهضة في تحقيق مستقبل أفضل لأبنائها على قدرة الفقراء في الخروج من "براثن الفقر الموجعة" أكثر من رهانها على قدرة الأغنياء في تطوير "أوضاعهم المُرفَهة"! فقلت لها في ذهول: إذن على من تراهنين في المستقبل يا خالة؟ فقالت: بالطبع على أبناء البطة السوداء!
Sopicce2@Yahoo.Com
Advertisements
الجريدة الرسمية