رئيس التحرير
عصام كامل

من نزار قباني لـ«كاريوكي».. السكة شمال في شمال


"سيادة الرئيس: إنني أشكو لك الموقف العدائي الذي تقفه مني السلطات الرسمية في مصر، متأثرة بأقوال بعض مرتزقة الكلمة والمتاجرين بها.. وأنا لا أطلب شيئًا أكثر من سماع صوتي.. فمن أبسط قواعد العدالة أن يسمح للكاتب أن يفسر ما كتبه، وللمصلوب أن يسأل عن سبب صلبه.


لا أطالب يا سيادة الرئيس إلا بحرية الحوار، فأنا أشتم في مصر، ولا أحد يعرف لماذا أشتم، وأنا أطعن بوطنيتي وكرامتي لأني كتبت قصيدة، ولا أحد قرأ حرفًا من هذه القصيدة.

لقد دخلت قصيدتي كل مدينة عربية، وأثارت جدلا بين المثقفين العرب إيجابا وسلبا، فلماذا أحرم من هذا الحق في مصر وحدها؟ ومتى كانت مصر تغلق أبوابها في وجه الكلمة وتضيق بها؟".

الفقرات الثلاث السابقة، لا تتعدى كونها جزءا من رسالة بعثها الشاعر الراحل نزار قبانى، إلى الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، مؤرخة بتاريخ 30 أكتوبر 1967، كتبها "نزار"، بعدما تناقلت الأيدى والألسن أبيات قصيدته "هوامش على دفتر النكسة"، التي يبدو أنها أغضبت بعض من كانوا داخل "نظام ناصر"، ووجدوا فيها إهانة وتجاوزا من الشاعر السورى، فقرروا منعها ومنع صاحبها من دخول "المحروسة"، متجاهلين الأزمة التي دفعته للكتابة...!

أزمة النكسة، التي قال عنها "نزار" في الرسالة ذاتها: "في أعقاب نكسة الخامس من حزيران، يونيو، قصيدة عنوانها "هوامش على دفتر النكسة" أودعتها خلاصة ألمي وتمزقي، وكشفت فيها عن مناطق الوجع في جسد أمتي العربية، لاقتناعي أن ما انتهينا إليه لا يعالج بالتواري والهروب، وإنما بالمواجهة الكاملة لعيوبنا وسيئاتنا، وإذا كانت صرختي حادة وجارحة، وأنا اعترف سلفا بأنها كذلك، فلأن الصرخة تكون بحجم الطعنة، ولأن النزيف بمساحة الجرح.

اعترف "نزار" أن صرخته كانت حادة، لكنه برر حدتها تلك بحجم الطعنة ومساحة الجرح، فما كان من "ناصر" بعدما اطلع على فحوى الرسالة تلك، إلا أن استدعاه إلى القاهرة ليعلن أمامه رفضه حظر القصيدة وأشعاره ومنعه من دخول مصر.

اليوم.. يوليو من العام 2017، بعد مرور نصف قرن على واقعة "منع قصيدة"، يبدو أن الأمور لم تستقم، وإلا ما كانت فرقة "كايروكى" هي الأخرى على موعد مع قرار ستينى، لا يتناسب والألفية الثالثة، حيث قررت الهيئة العامة للمصنفات الفنية رفض عدد من أغنيات ألبوم الفرقة الجديد، وذلك وفقا لما كتبته الفرقة على صفحتها الشخصية بموقع التواصل الاجتماعى "فيس بوك" بداية يوليو الجارى، وكان نصه " رفضت الهيئة العامة للرقابة على المصنفات الفنية شوية اغاني من البوم كايروكي القادم "نقطة بيضا".. الخبر الوحش أن ألبومنا لأول مرة مش هينزل في الأسواق بشكله الحقيقي.. وغالبا في الإذاعة والتليفزيون كمان (مش مهم).. الخبر الحلو أننا مكملون وهتفضل أغانينا حرة وهتكون متوفرة على الإنترنت والديجيتال ستورز.. مش بس كده جميع أغاني الألبوم هتكون مصورة.

قيادات المصنفات الفنية التي رأت فيما تقدمه "كايروكى" لا يتناسب والذوق العام، لم تشغل بالها، أنها منذ أسابيع قليلة، منحت أعمال درامية إجازة العرض، بعدما ألصقت عليها "تصنيفات عمرية"، حتى أنه في مصر أصبحت هناك أعمال درامية تذاع تحت لافتة "للكبار فقط -18"، في حين أن الأغنيات التي تقدمها الفرقة الشبابية لا تقترب "وقاحتها" –إن جاز أنها تحتوى على وقاحة- من الكلمات والمشاهد التي تم عرضها في أيام الشهر الكريم، لكن يبدو أنه هناك أسباب أخرى دفعتهم لـ"المنع".

المثير في الأمر هنا، أن قراءة التاريخ تؤكد -بما لايدع مجالا للشك- أن من تم منعه دائما يكون الرابح، والخسارة لا تكون إلا من نصيب صاحب قرار "المنع"، ففى الوقت الذي خرجت الأصوات لتطالب بـ"قطع رقبة نجيب محفوظ" على خلفية روايته "أولاد حارتنا"، فإننا لا نتذكر الأصوات التي انتفخت حناجر أصحابها، في حين أن أرصفة القاهرة ومكتباتها لا تزال تقدم لنا "أولاد حارتنا"، ولا نزال نلهث وراء ما كتبه أديب نوبل ولا نترك فرصة واحدة تمر دون الثناء على أعماله والترحم على أيامه.

يا سادة.. الأنظمة لا تُثبت أركانها بـــ"إفشاء سياسة الخرس"، التنمية لا تكون بـ"المنع".. "المنح" هو كلمة السر، كل الديمقراطيات التي تحاولون نقل تجربتها إلى مصر المحروسة لم تشهد حالة منع، بل على العكس، دائما كانت تترك مساحة كافية لمرور "بخار الماء"، لم تُغلق الغطاء على المياه، لأنها تدرك أن الانفجار هو الخطوة التالية حال اتخاذ خطوة "الغلق" وإحكام السيطرة.

اليوم.. وبعد مرور عدة أيام على طرح "كاريوكي" ألبومها على الإنترنت، هل هناك من حكيم داخل المصنفات الفنية يلقي نظرة على الأرقام التي حققتها أغنيات الألبوم، فيما يخص نسبة المشاهدة؟ هل هناك عاقل يدرك أنه ارتكب جُرما وقحا لا يتناسب مع الدعوات التي تطلقها القيادة السياسية؟!
الجريدة الرسمية