رئيس التحرير
عصام كامل

التكافل الاجتماعي وتفعيل الاستحقاق.. أيهما أفضل؟


باعتبار أسعار المواد الغذائية المتاحة للمواطن أحد اعتبارات الأمن القومي، وعندما أصبحت الزيادة السكانية العالمية المطردة كابوسًا أمام خطط التنمية، بل أصبحت تدق ناقوس المجاعة في دولة تلو الأخرى، وعندما تتعرض المجتمعات لأزمات اقتصادية، وقتها يكثر الحديث عن التكافل الاجتماعي كحل مكافئ للأزمة ذاتها، وقد استطاعت دول كالهند تفعيل الاستحقاق في تحصيل الغذاء من خلال التأهيل الاقتصادي للمواطن المستهدف واكتسابه القدرة على تحصيل الرزق والغذاء.


ويطرح "أمارتيا صن" عالم الاقتصاد الهندي الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد ١٩٩٨ وجهة نظر تستحق الدراسة وهي أن الغذاء لا يجري توزيعه في الاقتصاد عن طريق الصدقات وإنما بالعمل... من خلال ملكية موارد أو القوة البشرية ولكن تدخلت التكنولوجيا والعلوم الإدارية مؤخرًا لتشكل قيمة مضافة للاقتصاديات الناشئة نحو مواجهة أزمة الغذاء، وهناك نقطة أخرى يطرحها "صن"، وهي أن أزمة نقص الغذاء قد تواجه مهنة أو طبقة اجتماعية دون غيرها في حين لا تتأثر طبقات أخرى أو مهن أخرى، وهذا لا ينفي وجود الأزمة ذاتها ولعل مجاعة البنغال ١٩٤٣ كانت نموذجًا حيًا أثناء الحرب العالمية الثانية.

أن التغير الديموغرافي الذي حل بأيريلندا في مجاعة القرن التاسع عشر جعل سكانها اليوم يقلون عن عدد السكان وقت أزمة نقص الغذاء بسبب الهجرة، ولعل المهاجرين كانوا نخبة الشباب والمجتمع.. وفي رواية "الإنسان والسوبرمان" من تأليف "برنارد شو" تحدث البطل عن مجاعة أيرلندا فيقول إنها ليست مجاعة وإنما الجوع لأن بلدا مليئا بالغذاء ويصدره لإنجلترا... ببساطة انخفضت القدرة المالية لشراء الغذاء واتجهت المنتجات الغذائية إلى إنجلترا حسب قوانين السوق الحرة.. وهل كان أي الأسلوب الصحيح هو إيقاف التصدير لإنجلترا؟ بالطبع لا.. لأنه لا يقضي على جذور الأزمة، وإنما تأهيل المجتمع نحو الإنتاج والتنمية لسد كامل احتياجاته ومن ثم القدرة الشرائية، والجدير بالذكر أن بريطانيا العظمى التي لم تصبها المجاعة رغم فساد محصول البطاطس أيضًا ولكنها كان لديها اقتصاد قادر على المواجهة، ولم تكن توجه استثماراتها نحو أيرلندا لاعتبارها دولة معادية مما ساعد على زيادة الفقر والجوع.

أن ملاحظة تشرشل إزاء المجاعة في الهند البريطانية ١٩٤٣ تلخصت في أن سبب المجاعة ميل المواطنين للتنشئة وكأنهم أرانب... في إشارة إلى قدرة المجتمع على مواجهة أعبائه الاقتصادية.

إن التأهيل الاقتصادي للمواطن نحو مواجهة أزمة الغذاء يعتمد على سياسة الحوافز نحو زيادة إنتاج الغذاء داخليا بعيدا عن الاستيراد للسلع الاستراتيجية، ولكن القضية الوطنية الرئيسية هي تنمية الاقتصاد ذاته، لذا فقدرة الاقتصاد الوطني على الإنتاج الصناعي والتصدير تحقق القدرة الشرائية للغذاء، ولعل انخفاض نصيب الفرد من إنتاج الغذاء في الدول المتقدمة مقارنة بين ٧٩- ١٩٨١، وعام ٩٣- ١٩٩٥، فقل انخفض ١.٧٪‏ في جنوب كوريا، و١٢.٤٪‏ في اليابان، و٢٨٪‏ في سنغافورة، ولم يلحظ أي زيادة في الجوع وإنما نمو في نصيب الفرد من الدخل عن طريق النمو الصناعي، ببساطة أن زيادة الإنتاجية للدولة تتلخص في معادلة بسيطة وهي زيادة الإنتاج عن الاستهلاك.

إن القضاء على الجوع لن يتحقق بالصدقات أو بالتسول، وإنما قد يتحقق بخلق فرص عمل بمشروعات كبرى أو صغرى منتجة سواء داخل أو خارج البلاد، من خلال منظومة، وقد نجحت الهند وبتسوانا في ذلك النهج دون التوسع في إجمالي المتاح من الغذاء.

إن المشروعات الصغيرة المقترحة يجب الا تستهدف الفلاح (الإنتاج الزراعي)، وإنما تستهدف من يمارسون الأنشطة الطفيلية أو العاطلين، وقد تتحقق بمشروعات صغيرة تحقق التصدير، لذا فإن تحفيز المجتمع وتأهيله ببرامج متكاملة نحو الإنتاج هو الهدف، وليس إطعامه فقط لأن الإنتاج والتصدير يحقق تنمية اقتصادية مستدامة.

وإن كنت أنا بالفعل أشترك في آليات التكافل الاجتماعي من خلال عملي التطوعي في المجتمع المدني، والتي تمثل مسكنات سريعة للألم، ولكن لن أخفي غيرتي الوطنية نحو تجارب ألمانيا وكوريا الجنوبية وأمريكا والصين التنموية في التأهيل المجتمعي للمشروعات الصغيرة، واقتحام الأسواق العالمية، وتوفير الحوافز فاستطاعت أن تحقق مبدأ الاستحقاق للمواطن في تحصيل الغذاء بعيدًا عن التكافل الاجتماعي، أو الصدقات التي يستحقها فقط غير القادرين على العمل..

بل إن تأهيل المعاق نحو الإنتاج يدمجه مع المجتمع كمواطن ناجح سوى بما يناسب قدراته، ليحقق تماسكا مجتمعيا بل سياسيا بانهماك المجتمع في معركة التنمية والتطور المستدام والقروض في حد ذاتها دون تأهيل المقترض، من خلال تدريب وتحفيز ضريبي نحو التصدير لن تمثل فارقا ملموسا.. وقد طرحنا سابقًا خطة للمشروع القومي للمشروعات الصغيرة من خلال قطاعات يتميز بها الاقتصاد المصري نحو السوق العالمية وتحقيق معادلة التصدير وكما يقول المثل الصيني "لا تعطني سمكة بل علمني الصيد".. وللحديث بقية...
الجريدة الرسمية