رئيس التحرير
عصام كامل

الاقتصاد المصري بين اشتراكية الدولة والسوق الحرة


قصة مأساة الاقتصاد المصري بدأت منذ الخمسينيات من القرن الماضي، حيث الانتقال الكامل من السوق الحرة إلى الاشتراكية كمنهج متكامل سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا والارتكاز إلى اقتصاد الدولة، وكان المعسكر الشرقي له من القوة ما يدعم هذه السياسات..


وحققت مصر مكاسب سياسية -بالذات داخليًا- أيضًا كان الاقتصاد المصري قويًا (أقوى من دول أوروبية عظمى أنهكتها الحرب العالمية الثانية) واستمر الأمر.. ثم جاء فخ التحول غير المدروس في السبعينيات نحو السوق الحرة عشوائيًا مع الاحتفاظ بالقوانين والفكر الاشتراكي في مؤسسات الدولة وخاصــة القطاع العام، واستمر الحال حتى جاءت وزارات في آخر عهد مبارك تتبنى الأفكار النيوليبرالية ونظرية تساقط ثمــار النمو..

وإن كانت النظرية لها مرجعية علمية وتجارب ناجحة في دول أخرى، وقد نجحت في مصر اقتصاديًا في رفع نسب النمو وجذب الاستثمار لكنها فشلت اجتماعيًا وسياسيًا وخرجت الجماهير تطالب بإسقاط النظام السياسي..

قد يكون السبب تطبيق نظرية اقتصادية على أيدي اقتصاديين محترفين، ولكن مع عدم إدراك بعدها السياسي والاجتماعي بتصادمها مع توغل الثقافة الاشتراكية في المجتمع المصري التي تتلامس مع المواطن من المدرسة والجمعية التعاونية ثم منظومة القطاع العام (المصالح والشركات والمصانع) من خلال منظومة الدعم والتعليم المجاني..

فوجئت الجماهير بسياسة الخصخصة التي تم تسويقها سياسيًا واجتماعيًا بطريقة خاطئة وانتشرت الشائعات التي تتهمها بأن الهدف الرئيسي منها مصالح فئات بعينها وأنها ستار للفساد ولا أدعي أن كل صفقات التخصيص كانت نظيفة، ولكن من المجحف أن نتهم الخصخصة أن دون أهداف اقتصادية تستند إلى نظريات علمية وتجارب ناجحة في دول مقارنة.

لقد تعقدت أزمة الهوية الاقتصادية إلى كل جوانب الحياة ودون حلول استراتيجية تواجه المشكلة المزمنة فأصبحت مصر تعاني أمام سياستين اشتراكية وليبرالية لا وجه للتقارب بينهما خاصة أن أحدًا في مصر منذ السبعينيات لم يواجه أثر السياسات الاقتصادية اجتماعيا وثقافيا واليوم تعاني الحكومة من إحداثيات إرث عفن من التهرب في مواجهة أزمة الهوية الاقتصادية رغم أن أحدا لم يدرك أن أغلب دول أوروبا وأمريكا تنتهج مبادئ الليبرالية الاجتماعية التي أسسها الإنجليزي أنتوني جيدنز ولنا مقال لاحق في شرح الدمج المنهجي بين الليبرالية والاشتراكية اقتصاديا واجتماعيا لكسب مميزات كل اتجاه بأسلوب علمي.

سؤال عابر هل كان محمود محيي الدين، وزير الاستثمار السابق ( والمرشح لرئاسة الحكومة) صادقًا مع نفسه عندما قال مؤخرا إن السياسة الاقتصادية المصرية يجب أن تحقق حدودًا لتطبيق العدالة الاجتماعية لمحدودي الدخل رغم أنه كان أهم رجال سياسات النيو ليبرالية ونظرية تساقط ثمار النمو يومًا ما، أم أننا نريد أن نسمع ما يداعب أحلامنا دون براهيــن في الأداء لتؤكد هذه التصريحات.

بالطبع ترغب الحكومة في الإصلاح الاقتصادي، ولكن هل ستواجه الشعب وتحل جذور الأزمة أم سنظل نتعاطى المسكنات -التي ندمنها للأسف-؟! في وقت أصبح الجسد منهكًا لأقصى درجة ولا بديل سوى الإصلاح الاقتصادي الجذري على كل المستويات بدءًا من السياسي إلى الاجتماعي والثقافي لتقبل حجم المشكلات شعبيًا لعبور المرحلة الاقتصادية وتحقيق التنمية المطلوبة.

هل تمتلك الحكومة الجرأة لتحقيق ذلك؟
إن إعادة اختراع العجلة في مصر هو عادة قبيحة اعتدنا عليها في حل الأزمات لنضرب بعرض الحائط أبسط القواعد العلمية في استنساخ ثم تطويع وتشكيل تجارب ناجحة من دول مقارنة في الإصلاح الاقتصادي ودمجها بإحداثيات الاقتصاد المصري، وبالطبع لن تتحقق معجزات آنية إنما نستطيع تحقيق قفزات نوعية عن طريق الاستنساخ وإعادة التشكيل وأحيانًا يكون دمج التجارب المختلفة مثاليًا.

أهم تجارب الإصلاح التي استوحى منها صندوق النقد الروشتة نحو الاقتصاد المصري هي اقتصاديات ريجان في الولايات المتحدة وهناك تجربة يجب ألا يغفلها صانع القرار المصري أعتقد أنها أكثر تناسبًا مع الواقع المصري وهي التجربة الصينية (إصلاح جانب العرض) ولا نغفل انتقال الصين من الاقتصاد الاشتراكي المنغلق إلى انفتاح مدروس، فكما يقول مارك زوكربيرج، مؤسس فيس بوك، إن الصين استطاعت خلال الـــ٣٥ سنة الماضية تحقيق أهم تجربة من التحولات الاقتصادية والاجتماعية في تاريخ البشرية وانتقل مئات الملايين من البشر من الفقر بواسطة تدابير نفذتها الصين لتحقق في جهودها نحو محاربة الفقر ما لم تحققه دول العالم مجتمعة.

وسنخوض في مقال لاحق مطول في الفرق بين سياسة اقتصاديات ريجان وإصلاح جانب العرض (الصين) وأيهما أنسب من وجهة نظري نحو إصلاح الاقتصاد المصري... ما زال كابوس التأميم يمثل هاجسًا.
الجريدة الرسمية